جكو حاج يوسف يسبر المفاهيم الغارقة في التجريب

غريب ملا زلال

هذه الزوبعات اللونية ليست إشارات الفكاك من مواقيت ملخصات الفنان جكو حاج يوسف، وإنما هي مقاربات غير تقليدية للفعل الإبداعي. هي أشبه بانشطارات داعية للتحرك الموحي بالتعاظم ضمن اختيار موفق لفضاء تؤهله لتجاوز كل الأطر العارية منها والجريئة، وعلى بساط تحاكي التحتيات بلغة غير شائعة يرمي من خلالها إلى عرض مفردات أسلوبه الحامل لمعاني مختارة وواعية، مع منح غرابة جاذبة لأفق المتلقي.

وهذا ما يجعله يسبر المفاهيم الغارقة في التجريب، وما يجعله أيضا يتجاوز الزمان بإيقاع مكاني، فيحلل الحدث القيمي الجمالي لا وفق خط مستقيم، بل وفق منحنيات غير مستقرة، بل متداخلة في تخييل فني، تخييل غير واهم بل منخرط إلى حد الوقوع في باب التعويض بالرماد، وذلك باستعارته تقنيات شكلية تميز مغامرته، وكما تميز المتعة التي تخلقها هذه المغامرة اللذيذة.

فعلى سبيل المثال، يستطيع جكو أن يولد في المتلقي متعة فنية تتضح جليا في اهتمامه بالبحث اللامحدود عن شكل جديد للعرض، خصوصا ذلك الشكل الذي لا يعيد قراءة الواقع فحسب، بل الذي يجعل المتلقي يتعرف على وسط غير مرئي، وبقراءات إيجابية بها يعثر على حصيلة فنية تمثل فتح كوة لتحرير ذاكرته وكسر تلك العلاقة القلقة لديه.

وهذا ما تطلب من جكو جهدا إضافيا في خلق حالات من التفاعل اللائق واللافت في الوقت نفسه، كدعم الأورانج بجار أصفر يحاكي كل خلجات النفس، وبتوغل الرماد في الأزرق مما يعطي مفهوما مغايرا لعلاقة اللون باللون. أي أن جكو لا يملك وصفة جاهزة لابتداع أفق لوني محير، فهو يدثر بياضه حسب مقتضى الحال، أي حسب حالة الولادة.

ولهذا يضع يده، ودون تحيز إلا للقيم الفنية، على منجزه بدعم سيطرته الداخلية، ففيما يخيل إلينا أن جكو يهيمن بمتعة فائقة على موسمه، أقصد على منجزه الفني بمستوى الباحث عن التحولات التي قد تبلغ مرتبة المغامرة، وذلك ضمن شروط الخلق بكسر أداة الارتياب أولا، وللسعي إلى إضفاء مسافات جمالية لاستخلاصاته ثانيا.

فهو مبعثر في اللاوعي، وضمن هذا الاتجاه يسلك فناننا جكو بوابات كانت مغلقة سابقا وتشي بامتدادات تشخص الحالة. وهذا ما يجعله يهتم بكشوفات جمالية جديدة ويفجرها على كفن عمله، خارج نطاق ذلك الطوفان الذي قد يهب عليه كما هب على آخرين، فاجتث من ذاكرتهم كل إشارات البحث.

فهو يستلهم كل ما هو ممكن أن يمنحه علامات تأسيسية في سياق مسيرته الفنية، وبرحابة فنان ولد منذ قرون، يعثر على كنزه الإبداعي عبر إحاطته بلهاث ألوانه كقيثارة إدهاش في ارتطامها بسموات الروح.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

دريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…