قراءة في مشهد الخنفساء اللامعة

عبدالجابر حبيب

 

الهايكو وتوهُّم الرؤية:

 

في الحقيقة، جاءتني فكرة هذا المقال بعد قراءتي نصّاً لأحد الأصدقاء، وقد أثار لدي تساؤلات جوهرية حول ما يُسمّى بـ”الصدق في الهايكو”.

النص المعني لم يكن من نوع المشاهد التي يمكن للعين أن تلتقطها بيُسر، بل بُني على فرضية يصعب تصديقها:

كيف يمكن لعَينٍ بشرية – من مسافة بعيدة – أن ترى حشرةً بحجم حبّة العدس، وتبني على تلك الرؤية مشهدا كاملاً؟

 

و لأني لا أرغب في إحراج صاحب النص، قررتُ كتابة نص يعبّر عن رؤيتي لجوهر الهايكو، ويُظهر الفارق بين ما نتمناه أن نراه وما يمكن للعين فعليّاً أن تلتقطه بصدق.

 

ليس كل ما يُكتب هايكو

 

الهايكو ليس مجرّد بنية شكلية مكوّنة من ثلاث شطرات، بل هو فنّ الانتباه الصافي للحظة العادية.

هو التقاط لما هو صغير، عابر، ومهمل، شرط أن يكون نابضاً، مرئياً، وصادقاً.

 

نصي على سبيل المثال:

 

بلاطةُ سطحٍ

عند زاوية المِزراب

تومضُ خنفساء

 

يبدو هذا النص متماسكاً على المستوى اللغوي، غير أن قراءته المتأنية تطرح سؤالاً لا مفرّ منه:

هل هذا المشهد يمكن أن يُرى حقّاً؟

 

ما لا تُبصره العين… لا يُكتب

 

الخنفساء حشرة صغيرة، داكنة اللون، ذات ملمس لامع نسبياً، لكنها لا تُومض.

وإن كانت تلمع أحياناً، فذاك يقتصر على انكشافها لضوء مباشر، وليس ومضاً ذاتياً كضوء يرَاعة.

والمِزراب، مكان ضيّق، مائل للرطوبة والظل، لا يُظهر تفاصيل دقيقة، فكيف أمكن رصد هذا الوميض من الأعلى؟

بل الأهم: كيف التقطت العين خنفساءً بهذا الحجم في زاوية غير ظاهرة من سطح مرتفع؟

 

“الهايكو الحقيقي لا يُكتب، بل يُلتقط. ليس فعل خلق، بل فعل انتباه.”

باشو

 

“حين تلتقط شيئاً غير محتمل، تأكد أنك التقطت خيالَك، لا الحقيقة.”

 

إننا هنا أمام مشهد لم يُلتقط بل تمّ اختراعه.

وعندها، لا يملك النص شرعية هايكوية، حتى وإن بدت مفرداته جذّابة، وصوره لامعة.

 

الزوم الذي لا يُقنع

 

قد يظنّ بعض الكتّاب أن بإمكانهم محاكاة العدسة، وأنهم يستطيعون اللجوء إلى تقنية “الزوم ” لتقريب تفاصيل لا تُرى.

لكن الأمر لا يعمل بهذه الطريقة.

الزوم الحقيقي في الهايكو يبدأ من المشهد الكلي ثم ينحدر تدريجياً إلى تفصيلة ممكنة الرؤية.

 

أما هنا، فالتفصيلة – “وميض الخنفساء” – لم تكن قابلة للالتقاط اصلاً، ما يجعل الزوم أداة فاشلة.

 

 “إذا اضطررت لتفسير مشهدك، فربما لم يكن مشهداً أصلاً.”

 

المشهد الصادق في الهايكو لا يحتاج شرحاً، ولا تأويلاً معقداً.

يكفي أن يُرى، كي يُصدّق، ثم يُدهش.

 

المفارقة التي لم تولد

 

قد يُقال إن المفارقة في النص تنبع من التقاء كائن طبيعي (الخنفساء) بعنصر صناعي (المِزراب)، أو من اجتماع الظل واللمعان.

لكن هذه المفارقة تنهار أمام مفارقة أقوى:

أن يُبنى النص كله على مشهد لا يمكن للعين أن تراه.

فإذا غابت الرؤية، غابت المفارقة، وبقي النص أقرب إلى الزخرفة منه إلى الهايكو

 

نص بديل أكثر صدقاً من المفردات ذاتها:

 

بلاطةُ سطحٍ

عند زاوية المِزراب

خنفساء تمشي

 

هذا النص، رغم بساطته، أكثر واقعية.

فمشهد خنفساء تمشي على حافة بلاطة، في وضح النهار، أمر يمكن للعين أن تلتقطه، وتصدّقه، بل وتشارك فيه بصمت.

لم يُفرض عليه وميض، ولم يُجمّل بأيّ استعارة.

إنه مشهد هايكوي صادق، يولد من الرؤية الحقيقية لا من رغبة الشاعر في الإدهاش.

 

الهايكو ليس ملعباً للبلاغة، بل اختبار للرؤية.

والمشهد الذي لا يمكن للعين أن تراه بوضوح، لا يصلح أن يُبنى عليه نص هايكو، مهما بدا شكله جميلاً.

فالصدق لا يُختبر بالكلمات، بل باللحظة.

وما لم يكن المشهد حقيقياً، سيبقى الصمتُ أبلغ من ثلاث سطور.

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ادريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…