صبري رسول
من ظواهر الاستلاب الفكري المتوارث تاريخياً منذ مرحلة طفولة الشعوب «الشعوب البدائية» الاعتقاد البشري بوجود كائن شرير يزيّن للإنسان الأعمال الخبيثة والفتن، ويغريه للوقوع في حبائله. وقسّم مورغان التاريخ إلى ثلاثة مراحل «إن مورجان هو أول شخص ذو معرفة صحيحة حاول أن يقدِّم تقسيمًا دقيقًا لمراحل حياة الإنسان فيما قبل التاريخ. ورغم أن هناك موادَّ هامة كان يجب أن تضاف إلى تقسيم مورجان إلا أن هذا التقسيم ما زال صحيحًا(1)».
اعتقد الناس في المرحلتين الوحشية والبربرية بوجود كائنٍ شرير وخارق القدرات، اسمه الإبليس، ونسج البدائيون قصصاً عنه، ولحماية أنفسهم منه حملوا التمائم والتعاويذ، أسماه العبرانيون «أزازيل»، وأطلق عليه العهد الجديد اسم «Satan» شيطان، ولم تختلف المسيحية عن اليهودية في توصيفه بالشرير والمانع لإيمان الناس بالدين المسيحي، ويتسبّب للناس أمراضاً نفسية وجسدية. في المعتقدات القديمة هناك كائنات شريرة وأخرى خيّرة، والصراع بينها مستمر، إلا أن الديانات الثلاثة الأخيرة جسّدت الكائنات الشريرة بالشيطان والخيّرة بالله، لكن الصراع لم يتوقّف، لكن تحوّل مسرى الصراع من الطبيعة إلى الإنسان، «وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ»(2).
وكان من الملائكة المقرّبين من الله، لكنه رفض السجود لآدم عندما أمر الله الملائكة بذلك، فاستحقّ لعنة الله، «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ»(3)
وتدور قصص كثيرة عن أعماله وإغراءاته. تغيّرت صورة الشيطان وتطورت في الديانات، ورصد الإسلام صوره في الأساطير والديانات القديمة، وصاغ صورة تتناسب مع ذهنية البدوي في الصحراء. كانت الصّورة الجديدة استلاباً كلياً لذهنية الإنسان، وأي اعتقاد مغاير إنّما كفرٌ وخروج من الملّة.
إنّ الإنسان ألبس إبليس كلّ التصرفات المشينة والسلوكيات السيئة، ونسب إليه الفتَن بين الناس، فهو السبب الأول للمشاكل بين البشر، كما كان السبب في طرد آدم من الجنّة،» يَا بَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجنّة(4)»
لم يكتفِ الإنسان بهذا بل حمّله مسؤولية التحولات الكبرى في التاريخ، لِما يمتلك من مهارات إقناع الناس بأفكار شريرة، لكنها تبدو نبيلة في ظاهرها، وكأنّ الإله بات في عجزٍ عن ردعه وعما يقوم به، أو كأنّه تركه يفعل ما يشاء، ألم يكن الإله المنزّه القادر على كلّ شيء أن يجنّب عباده من حباله وأفعاله؟ أليس هو من خلق الشيطان؟
«نستنتج إذن أن الفكرة الشائعة عن مقدرة إبليس لا تنحصر في مجرد اعتباره مصدر إغواء الناس عن سلوك الطريق القويم بل تتعدى ذلك لتشمل قوى واسعة وقدرات عظيمة لو أخذناها بعين الجد لظهر لنا ان ابليس يسير قسماً كبيراً من مجرى الأحداث ويعتبر مسؤولاً عن معظم الحركات الفكرية والفنية والسياسية في تاريخ الحضارة»(5).
إذا لم يعُد الإنسان مسؤولاً عن أعماله بهذا المنطق الديني، ولم يعد لديه القدرة على التفكير واتخاذ القرار، وهو مجبرٌ على السّير كما رُسِم له، ألا يعني أنّه مسلوب الإرادة؟ والإرادة لا تكون متوفرةً إلا لمن يملك العقل الحرّ، والتفكير الحرّ، واتّخاذ القرار الحرّ من دون عوائق، وفي مسيرة الحياة الدينية كما يراها الفلاسفة لايستطيع الإنسان أن يكون كذلك.
——————————
* من كتاب الاستلاب الفكري والثقافي، صبري رسول، طبعة دهوك – 2024
– أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، فريدريك أنجلز، ترجمة أحمد عزّ العرب. (تاريخ النشر غير مذكور) ص10
2- سورة البقرة، الآيتان 35-36
3 – سورة البقرة، الآية 34
4 سورة الأعراف، الآية 27
5 – صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت، ط2 1970 ص83