عارف محمد يمزج بين الفنون ليتقصى الوجوه وأسرار اللون

غريب ملا زلال

 

لوحة تتقصى لحظات من الحياة

يمازج الفنان التشكيلي السوري عارف محمد بين الموسيقى والتشكيل وبين المدارس الفنية والأساليب المختلفة ليغوص في عالم مفتوح على التجريب ومحاولات تجسيد صور من الحياة بكافة جوانبها، مع إضفاء لمسة فنية تطول وجوه شخوصه وملامح لوحاته، محاولا استكشاف أسرار اللون وتستفز القارئ للإجابة عن إشكالات محتملة.

من اللافت للنظر أن المحاولات التجريبية لعارف محمد (1953) تذهب في مستويات عديدة، منها ما تشكل التيار الفاعل في دينامية الخلق ذاتها، وهذه ما تمثل تحولات في حركتها الباطنية المستمرة، ومنها ما تذهب نحو حساسية قائمة على إنتاج المتاح بالقدر نفسه، نحو حساسية فيها من الحماسة ما تجعله يستمتع بسلسلة لقطات متداخلة.

وتشكل هذه اللقطات المتداخلة معالم الفنان بمصداقية تدفعه هي الأخرى نحو ترابطات زمنية في سياقها المتحول والذي لا يمكن محو أثرها بالتزامن مع أحداث التجربة وهي تستحوذ على جزيئاتها، فعارف لا يستسلم لأوجاع الذاكرة، يكفيه النقر الخفيف بفرشاته عليها حتى تبدأ سلسلة مكاشفاته المؤرقة بالاستيقاظ، فالإسراف في جمع التفاصيل قد يكون متعبا للفنان والعمل الفني (المنتِج، المنتَج)، وبالتالي سيكون مرهقا حينها لمخيلة المتلقي أو القارئ، بل قد تخضع مساراته لقيود ما، أو تبعده في مقارباته نحو مسائل أخرى، نحو تفسيرات أخرى لا يمكن اعتبارها قراءات لإشكالاته المحتملة بوصفها جملة جماليات لالتفاتاته اللونية، الملائمة لإبداعاته الخصيبة.

عارف محمد يلح على تقصي الحياة طولا وعرضا وسطحا وعمقا، وتقصي التجارب المفتوحة على الحياة وقيمها الجمالية، ويلح محمد على التقصي، تقصي الحياة طولا وعرضا وسطحا وعمقا، وتقصي التجارب المفتوحة على تلك الحياة وقيمها الجمالية، وتقصي مداه الذاتي واتساعها مباهيا بكونه أكثر قدرة على صهر لغات إبداعية أخرى (لغة الموسيقى مثلا)، متجنبا الكثير من الارتباك والتناقض، وتتملكه رغبة شديدة في أن يسرد حكاياته بفرح ودون تكلف، مشاركا بها أصدقاءه، حاله كحال المخرج الفرنسي جان رينوار (1894 – 1979) في السينما، حيث كان يشد الوثاق بين فني الرواية والسينما بضبط اصطلاحي قد يربك متلقيه/قارئه على نحو ما. ويجازف به أحيانا ليكون أحد الفاعلين في تشكيل مشهده السينمائي من مقعده في صالة العرض والمشاهدة.

ومحمد ومن منظور تجنب الإبهام الواقعي في منتجه يذهب إلى ذلك الامتزاج بين فن التشكيل وفن الموسيقى، وإن كان هذا المزج قائما بذاته، فيحاول أن يخرج منهما بتكوينات هي الإشارات ذاتها التي تتمسك به وتجعله لا يغادر الفضاء الذي يعوم فيه، هي الدلالات الرمزية المختلفة للألوان والتي من الممكن أن تفسر في ضوء علاقتها ببعضها وبالمحيط المتفاعل بها، وفي ضوء اعتبارها إيقاعات موسيقية تتعدد وتتنوع بتجليات هائلة غير محدودة، وتقر ما للألوان من طاقات مفتوحة على اللانهايات.

هذا ما يجعلنا نذهب مع الفنان الألماني والسويسري المولد بول كلي (1879 – 1940) حين يرى في اللون والفنان شيئا واحدا، مكونا واحدا، وهذا ما يفعله عارف في تسجيل إحساساته بالألوان وإثرائها، فيستخدم ألوانا مضيئة أو معتمة، أو مضيئة ومعتمة في الوقت نفسه تبعا لإحساساته وما تهيمن في دواخله من درجاتها.

ويسير عارف في تجربته على خطين غير متوازيين، بل متداخلين إلى حد الفرح، خط العراك مع اللون بوصفه أحد أهم الأنظمة في نقل الداخل (الفنان) إلى السطوح (العمل)، وخط معالجة تلك الأنظمة بدرجات خافتة أو لاهبة، حتى يكسبها وتركيباتها بمستويات من الدلالات فلا تقع في قبضة الغموض.

والعمل التجريدي الذي يشتغل عليه عارف عمل غير قابل لتحديد المفاصل فيه، فالأمواج اللونية لا تهدأ، والعتمة لا تسمح لضوئه بالسطوع، فمن الصعوبة بمكان عزل مشاعر الخوف والقلق والإحباط من مشاعر الفرح والأحلام، وربما يقصد هو من ذلك الإثراء الذي يرفع من درجة التذوق الجمالي لدى متلقيه، وخط الاقتراب من البورتريه لا كصور ذاتية له أو لأصدقائه أو لأسماء فنية ثقافية (مثل نيروز مالك، سعيد كاباري، سعيد يوسف، كوني رش، محمد محمود طيباتي، محمد شيخو، غسان علوان، محمد أبوخليل، فاضل السباعي، وغيرهم)، بل كحركات لونية محدثة تعكس خاصيته المميزة فيها، وإعلاء أهمية ذلك ورفع شأنها للتوكيد على الوحدات المعرفية النشطة والمترابطة في ما بينها بعلاقات شكلية وإدراكية معا.

والعمل الفني هنا هو عملية التعامل مع الطرائق التي يتم من خلالها إدراك المثيرات والتعبير عنها والتي تشكل الأساس الأهم لجمالياته وجماليات بورتريهاته.

ويلحظ أن هناك ميلا لدى عارف نحو القيام بتغيرات شكلية فنية لا في الوجوه البشرية فحسب بل في أعماله التجريدية اللونية أيضا كأشكال بسيطة، متنوعة ومختلفة، وعبر مراحل متتابعة، ومرتبطة بالنشاطات الخاصة بحواسه، وبسلوكه الاستكشافي.

والمشكلات المختلفة ينبغي حلها داخل العمل الفني مهما كانت الاشتقاقات كثيرة ومهما كانت الاستنتاجات غارقة في الخاص، فحرية اختيار الفنان لصيغه البصرية توصله إلى حرية التعبير عنها، مع امتلاك حرية القيام بالتجريب من خلال أشكال لونية جديدة بحالات انفعالية جديدة قد تشكل استراتيجيته الدفاعية التي ستجتذب عين المتلقي على نحو نشط وفعال، وعلى نحو سعيه لاستكشاف الخصوصية الفنية في عمله الفني.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

دريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…