كاوا درويش
صغاراً كُنّا وكان بيتنا العتيق يستقر هناك معانقاً تخوم تلَّة الهلالِية، على مرمى البصر من مستوصفها الوحيد…
نهرب بأرواحنا في كل ليلةٍ من ليالي صيف القامشلي الساخنة نحو أسطح بيوتنا، نجتمع حول جدّاتنا كما تجتمع الأرواح المختنقة حول النسائم المعتَّقة برائحة الياسمين المنعشة ليلاً، نسمع منهنَّ قصصاً وحكايا عن عذاباتٍ كرديةٍ لا تنتهي… نستيقظ صباح الجمعةِ كما تستيقظ الذاكرة من رحلة نومٍ طويلة لتبدأ مشواراً جديداً على صفحات الأزمنة…
شاشة التلفاز تنحني بخشوعٍ مع تلاوةٍ عذبةٍ للقرآن الكريم بصوت عبد الباسط عبد الصمد، تتبعها فقرة الأطفال، – فقرتنا المفضَّلة- التي نُبحر فيها مع أسفار السندباد ورفيقيه علاء الدين وعلي بابا، رحّالةٌ ربتوا على أحلامنا قبل أن يعلّمونا الغوص في أهوال البحار وما وراءها… نسافر بعدها عبر سلسلة “حكاياتٍ عالميةٍ” إلى بلادٍ كثيرةٍ بعيدة، “بلاد البؤساء… “بلاد جان فالجان وكوزيت الطفلة اليتيمة تارةً، وطروادة وحصانها وأخيل وهيكتور تارةً أخرى…
تطلُّ علينا فجأةً جواهر بنت حميدي بوجهٍ بدويٍّ أشبه بقصيدةِ رياحٍ منقوشةٍ بوشومٍ من السحر والأنوثة، ثم يخرج علينا “إبطيحان” فيُرهِبُنا بعينه المفترسة، ويُضحِكُنا ببندقيته الفارغة، يَجري وكأنه فارس مغوارٌ يدخل معركةً، ثم يعود فجأةً وهولا يدري إلى أين كان متجهاً منذ البداية…
صوت سعيد يوسف يتدفَّق من مسجلة أبي بعذوبةٍ تشبه وشوشة الضوء لحظة الغروب حين يغني “بو إيڤار رو لمي چو آفا، لاوكو دي أم هرن مالي”…
رائحة المرق الأصفر تسلب فؤادي وتأخُذُني رغماً عني إلى المطبخ حيث أمي هناك منذ الصباح، تملأه لي في صحنٍ صغيرٍ مزدانٍ بصفار بيضٍ غير مكتملٍ يشبه أحلام طفولتي، فأحملهُ وكأنني اصطدت صيداً نفيساً، أتناوله تحت ظلال عريشة العنب في حوشنا الكبير، آه كم كان مذاق الدجاج طيباً، وكأنّه كان يُطبخ على جمرٍ من المشاعر، وليس كما اليوم على مواقد المظاهر.
نجلس جميعاً في حجرتنا الصغيرة لنتناول الغداء، أبي بجلبابه الأبيض يتصدر المائدة، وتقابله أمي بحُبٍ، تحتضنُ أخي الصغير وتوزع الخبز علينا وكأنها تنثرعلينا قُبلاتٍ خفية…
أخوتي الصغار يُحدِثون ضوضاء جميلة لا تشبه ضوضاء أطفالي اليوم وهم يتشاجرون على أجهزة الهاتف حول موائد الطعام…
قرقعةُ الصحون والمعالق كانت أنشودة منزلنا التي لم نطرب بها إلا بعد أن اندثرتْ…
ننهي غداءنا فتسرع أختي الوسطى إلى إحضار الشاي، نشربه بنهمٍ دون اكتراثٍ بحرارة تموز أو بنصائح الأطباء، كلّما ناولتْ أحدنا كأسه، وهمَّتْ بكأسها لتشربه، باغتها الثاني بكأسه لتملأه، وهكذا تصبُّ الشاي لهذا وذاك حتى يبرد كأسها وينضب الإبريق… كانت لعبةً خبيثةً نتفق فيها جميعنا بلؤمٍ على أختنا الحنونة…
نرتمي على ظهورنا مُتخمين مستمتعين بمشاهدة برامج التلفاز، أي شيءٍ كان، مسرحيةً فكاهيةً كمدرسة المشاغبين لعادل إمام ورفاقه، أو فيلماً عربياً كنغم في حياتي لفريد الأطرش وحسين فهمي وميرفت أمين، أو أي شيءٍ آخر…
تنثرُ جدَّتي نفحاتٍ من الماء على الأرضية الترابية، ويدير أبي مروحة الميتسوبيشي اليابانية الهوائية ذات الأجنحة الحمراء وكأنه يبعث بنسائم الراحة في أرجاء الغرفة، بينما تطفئ أمّي الأضواء وتسدل الستائر وتتركها تتمايل برقةٍ على أنفاس الهدوء…
لحظاتٌ قليلةٌ ويغفو الجميع لأهربَ أنا خلسةً مع أولاد حارتنا نحو مقلع قاسمو جنوب منزلنا لنلعب الكرة قليلاً، ثم ننطلق في رحلة صيد الحَسَاسينِ والعصافيرِ ابتداءً من “دَحْلا حَسُّو وغَرّافَتِهِ” ومروراً بنهر جغجغ حتى نصل الحدود التركية…
*محامِ وكاتب قصصي.