شاعر على سرير الشفاء.. حسان عزت كما عرفناه وكما ننتظره

إبراهيم اليوسف

 

حسان عزت، الصديق، الشاعر، الكائن المجبول من وهج الكلمة وملح التجربة، يرقد الآن على سرير الشفاء، في محطة لا تشبه سوى لحظة استراحة شاعرٍ أنهكه السفر الطويل بين الكلمات، لكنه لم يفقد بوصلة الحلم يوماً. أجل. على سرير الشفاء، يستعيد هذا الدمشقي المبدع النبيل وجوه أحبته، أصوات من فارقوه جسداً أو مسافة، يرسم القصيدة في الهواء كعادته، ويعيد ترتيب تفاصيل ذاكرته العامرة بالإبداع والحنين الذي يأتي توأما لوجوده وحضوره. ما يزال الشاعر الذي احتفظ بجمال اللغة رغم قسوة الزمن، ذاك الذي حمل دمشق في قلبه إلى الخليج، واحتضن الكلمة كما يحتضن الأب طفلته، وكما يحنو الهطل على يبابه.

ابن السبعينيات، المنتمي إلى جيل كانت فيه القصيدة منفىً ومأوى، لا يزال قادراً على المواجهة. بإرادته العالية. بجبروت روحه. روحه المقاومة. إنه لا يرقد مستسلماً، بل يستجمع قواه في هدوء، يرمّم جسده بروح محبة، ويكتب على الوسادة عبارة لا نراها نحن، لكنها ترتجّ في داخله: لاتقلقوا يا أحبتي سأظل معكم

في حديثنا الأخير، لم يكن حسان يشكو، كما كان المقام يتطلب، بل كان يسرد. يسرد غربته الطويلة، معاناته، محطات حياته بين المليحة ودمشق وأبوظبي، صوته الحميمي حين تحدث عن إيفا- أو حواء روحه ورفيقة دربه-  ابنته الفنانة، شعرت أنه لا يستسلم، بل يحوّل الفقد إلى ضوء داخلي. يتكئ على ذكراها لا كوجع، بل كقوة كامنة، تمنحه قدرة على الاستمرار، حتى في أشدّ لحظات المرض صمتاً.

لم ينسَ دمشق. شوارع الطفولة والحب والشعر. عاصمة الضوء التي دفع فيها أقرباؤه ثمن انتمائهم، وظلّ وفيًّا لقضية الإنسان السوري، ومؤمناً بأن الثورة ليست لحظة غضب، بل حق لا يسقط بالمساومة. لم يتخلّ عن الناس، ولم يتورّط في التسويغ أو التزييف، بل ظلّ حرًّا، في حنوه وغضبه، بروح طفل سريع الحب. سريع الندم. كما عرفناه، صادقاً، كلمته حادة كنصلٍ ومضيئة كمِصباح غافراً حتى لأولئك النمامين وأدوات الفتنة والأعداء كما يليق بروح شاعر كبير ومبدع..

هو الذي كتب كلمات أغنية “لي صديق من كردستان”، التي غناها سميح شقير في زمن كان كل ما يتعلم بالكرد ممنوعاً. لقد أحدث اختراقاً في جار آلة الرعب. إذ كان يعلم جيداً معنى الوفاء، وقد ظلّ وفياً لأصدقائه، حتى حين خذله بعضهم. وكم هو مدهش في قدرته على إعادة الحب إلى العلاقة، حتى بعد سحابة عابرة. تلك الخلافات الصغيرة التي تمّت إذابتها بكلمة من رفيقة دربه، تلك السيدة التي تحمي روحه كما تحمي زهرة ياسمين دمشقية نادرة من العطب.

ابنه الطبيب غيث في برلين الذي لا أفتأ أتواصل معه للاطمئنان على أبيه، ينظر من هناك بعينين ملؤهما الحب والقلق. يتابع عن بعد، لكن قلبه هناك، إلى جوار السرير، يسهر ويصلي ويكتب رسائل لا يرسلها، تماماً كما يفعل الشعراء.

حسان يعدنا أنه سيظل يقاوم كما قاوم أعتى أنظمة الشرق برؤاه وقصيدته. هو فقط يُمهل القصيدة لتستريح، ويمنح جسده بعض الوقت ليلتقط أنفاسه، قبل أن يواصل أغنيته الجديدة. قصيدته الجديدة، كما نعرفه، قوياً، إنسانياً، شاعرياً، وأكثر حضوراً.

سلامٌ عليك يا صديقي،

سلامٌ على لغتك التي لم تخنك، وعلى روحك العالية.

سننتظر عودتك إلى المقهى، إلى الورقة، إلى دمشق الحلم، إلى قصائدك، إلى اللقاء القادم.

نراك قريباً

لا بوصفك مريضاً، بل كمن استراح قليلاً من وعثاء الطريق، ليكمل مسيره إلينا، كما عادته، محملاً بالضوء.

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

دريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…