تفكيك الأثر النص كمنفى والغياب كعلامة قراءة في مجموعة” طائر الجهة الأخرى، لفاتن حمودي

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه الخسارات لا الاحتفالات. إذ إن القصيدة ليست بناءً، بل حالة ارتجاج. الشاعرة لا تبدأ من اشتعال اللغة، بل من مألوفيتها التي تتحول إلى شعرية ضمن خصوصية الصورة وعمومية النص.

تقول في إحدى قصائدها:
“الوطن جرّة ممتلئةٌ بأرواحٍ مكسورة
النهر يسيرُ
ثمّةَ حصى
يبرقُ بالدمعِ

 

لا يهمُّ
كلُّ هذهِ الأبواب
بلادٌ
تُطلُّ على العدم”
– ص 141 –

هذا ليس إعلان تمرّد، بل اختزال لوعي متكسّر. وتقول في مقدمة المجموعة:
“في الجهة الأخرى
نوافذي على البحر
على الصحراء
على مدينةٍ موغلة في الحرب
كل النوافذ إليك
في هذا الخريف
تتساقط سنوات عمري
طائرٌ في الجهة الأخرى”

كل قصيدة تخرج من باطن الذات لا لتكتشف، بل لتنجو. لا وصف ولا تزيين، بل إنغماس في تفاصيل اللحظة. الشاعرة لا تستعير أدوات التعبير، بل تكسرها وتعيد تشكيلها داخل مرجل التجربة. الفراغ ليس هامشًا، بل كثافة داخلية. هناك لحظات تنهض من الهسيس لا من الجمل، كما في مقاطع الصفحتين 58 و84 حيث تكون الكلمة آخر ما يُقال، والصمت هو النص الموازي.

وتقول أيضًا:
“الخواء ريحُ عصفٍ وزمهرير
يقفُ رجلٌ
مُلوّحٌ بشيب الفقد
يمسك المكانَ إلى آخرِه
بخطواتٍ مجنونةٍ يمضي
كثبانٌ تسيلُ عشقًا
صحراء
رملٌ كأنَّه سربُ نساءٍ هاربات
الخواء إنسانٌ يهرمُ ويشيخُ
فكيف نحفظُ يُونسَ في بطن الحوت
والزبد يملأ النصّ
على ورقةٍ ممزّقةٍ الخواءُ مرسومٌ
أضمُّك
نصلُ إلى أعمقِ نقطةٍ في الموت” – ص84 –

وفي موضع آخر تقول:
“أنا امرأةُ العاصفة، زحمةٌ تأكلُ فصولي
أمرُّ على صورٍ معلّقةٍ في الغياب
أتنصّت على الريح
وطنٌ في المهب
الأشياء تتنفس، ولا أحد
للفراغ صوتٌ، لا سلال ولا حبال غسيلٍ تُحرّك قميصكَ الغار
الدميةُ وحيدةٌ تقرأ الحرب
تلوبُ على ذراعٍ يُهدهد لصحوٍ عظيم” – ص19 –

الحب لا يُقدم كعاطفة، بل كاهتزاز وهشاشة وارتطام لا خلاص منه. الوطن ليس مكانًا معلنًا، بل ظلّ مطمور في الأشياء، كما يظهر في قولها:
“ظلال أصابعك تُشِعُّ تحت قميصي
أضربُ على الأرضِ بقدميَّ
صدى في الدروب
تقول: انظري الموت ينمو
وفي لياليَّ الباردةِ أشعلُ الأغاني
لأضيء قلب عُزلتي” – ص4 –

البيت في النص يتحول إلى استعارة لفقد أوسع، تقول:
“أنسى طيشكَ وجنونكَ
أنسى يوميَ وأمسي
أتذكّر قبلتَك العاصفة وأمضي
ذاكرتي تركتُها تجفُّ على حبل الغسيل
شاردةً أمشي
وحدكَ على الحافة القصوى من انتباهي
أنسى أننا في حرب
وأننا عشاقٌ فاشلون” – ص102 –

البنية الكلّية للنص ترتكز على تهميش الحدث عبر أثره، وترابط الشذرات يتم بالصدمات، لا بالحبكة. الفقد لا يُقال مرة واحدة، بل يُعاد عبر تراكيب متحوّلة، كل تكرار خيانة للذي قبله. الشاعرة لا تُطلق أحكامًا، بل تفتح الأسئلة، لا تُغلقها. تقول:
“الهواءُ ملسوعٌ والبردُ يرتجفُ
لستُ أنا التي تسير في الطريق” – ص17 –

يتكرر حضور مفردات الليل والعتمة، لا على نحو تقليدي، بل كعتمة شعورية فريدة في كل نص. وتبلغ ذروة الاختزال حين تقول:
“مطر يديك يشبهني حين أبكي، ويشبهني حين أغرق فيه
أي شيء يكفي
لأقول كلامًا كاملًا؟” – ص133 –

وفي نص بعنوان “ماذا لو؟” تقول:
“ماذا لو ضممتَني بعد عاصفة حزن، ورحتَ تبكي سرًّا؟
ماذا لو؟
تقول: ضميني خمس دقائق فقط، زوادةً للعمر
أطلقها في دمك جنونًا لرقصتك الأخيرة
ماذا لو لم أسمع صوتك
وأنت تقرأ قصيدتك؟” – ص105 –

لا استعراض في اللغة، بل اقتصاد شديد، كل جملة تسحب أثرها خلفها. الشاعرة لا تبحث عن القارئ، بل تجبره على مواجهة مرآة محطمة. تقول:
“لا شيء
لا المزهرية على طاولتي
ولا صورتي على طرف مكتبتك
ثياب معلّقة في الريح
نحن خريف صاعق
نرتجف تحت أكثر من سماء” – ص130 –

الكتابة هنا مواجهة لا تأمّل، لا مجاز ميتًا فيها، ولا صورة تُولد من فراغ لغوي، بل من نبض مهدّد. حين يبلغ القارئ تخوم الصفحة 90، يدرك أن القصيدة لا تُقرأ، بل يُفلت منها.

وقد جاء في كلمة الغلاف للشاعر العُماني سيف الرحبي:
“من أيّ وجهة أكتب عن فاتن حمودي، وعن ديوانها الجديد ‘طائر في الجهة الأخرى’، المفعم بالشفافية والوجع والفقد، وقد بلغت فيه نضجها الجمالي عبر مسيرة طويلة منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي… حتى انبثق نور الأمل بسقوط أحد أعتى الكوابيس في التاريخ السياسي العربي.”

إن تجربة فاتن حمودي تتشكّل من شظايا امرأة لا ترى العالم كاحتمال، بل كأثر. هي لا تكتب لتُسمَع، بل لتُفرّغ ما لا يُحتمل. اللغة في هذه المجموعة مشردة من وطنها، والجملة بلا مأوى. لكنها في هذا التشظي – الواعي أو اللاواعي – تُعيد خلق المعنى.

الغلاف، بلوحة ضياء الحموي، لا يجمّل، بل يكمّل. ليس مقدمة للنص، بل صُلبه. مشهد بصري ينتمي إلى متن التجربة لا إلى هامشها.

*

الشاعرة فاتن حمودي رفيقة درب الشاعر الدمشقي حسان عزت، أحد أهم شعراء جيل السبعينيات السوري إلى جانب سليم بركات وإبراهيم الجرادي.

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

ماهين شيخاني.

 

وصلتُ إلى المدينة في الصباح، قرابة التاسعة، بعد رحلة طويلة من الانتظار… أكثر مما هي من التنقل. كنت متعبًا، لكن موعدي مع جهاز الرنين المغناطيسي لا ينتظر، ذاك الجهاز الذي – دون مبالغة – صار يعرف عمودي الفقري أكثر مما أعرفه أنا.

ترجّلتُ من الحافلة ألهث كما لو أنني خرجتُ للتو من سباق قريتنا الريفي،…

إبراهيم سمو

عالية بيازيد وشهود القصيدة: مرافعةٌ في هشاشة الشاعر:

تُقدِّم الكاتبة والباحثة عالية بيازيد، في تصديرها لأعمال زوجها الشاعر سعيد تحسين، شهادةً تتجاوز البُعد العاطفي أو التوثيقي، لتتحوّل إلى مدخل تأويلي عميق لفهم تجربة شاعر طالما كانت قصائده مرآةً لحياته الداخلية.
لا تظهر بيازيد في هذه الشهادة كامرأة تشاركه الحياة فحسب، بل كـ”صندوق أسود” يحتفظ…