فراس حج محمد| فلسطين
هل اختلف شيء بين عامي 2019 و2025 لتمرّ رواية عدوان نمر عدوان “عودة الموريسكي من تنهداته” على “نساء ندوة اليوم السابع” دون ضجة؟ هذه الرواية المتضمنة لمشاهد وصفها المتحدثون بأنها جنسية أو جرئية جداً. هل أصبح المجتمع الثقافي أكثر وعياً وتقبّلاً وتسامحاً مع مثل هذه الموضوعات؟ أتمنى أن يكون المثقفون- ولا سيما “نساء الندوة”- قد نضجوا ونضجن بما فيه الكفاية، ليكفّوا بلاءهم واتهاماتهم عن الكتّاب.
ماذا حدث في 2019؟ لقد أعلنت مجموعة من “نساء ندوة اليوم السابع” مقاطعتهن للندوة المقرر أن تعقد لمناقشة ديواني “ما يشبه الرثاء” احتجاجا على مقطع شعري، وصف بأنه “خادش للحياء العام” في حين أن رواية عدوان مرّت بسلام وهدوء واطمئنان، وترحيب على الرغم من أن فيها- حتى بعد الحذف الذي مارسه عليها الكاتب وليد أبو بكر- جرعات من “الأدب المكشوف” التي تؤهل “نساء الندوة” حارسات الفضيلة من الانهيار عمل “حملة شعواء” ضد الرواية لمنعها من المناقشة أو حتى إعلان رفضهنّ للمشاركة. لكن لا شيء من هذا قد حدث.
نزهة الرملاوي قائدة قطيع النساء في ذلك الوقت، شاركت في “حلقة مناقشة الرواية” التي عقدت الخميس 24/6/2025، ولم تتعرض من قريب أو بعيد لتلك المشاهد التي يفترض أن تكون “مشاهد فاضحة” و”خادشة للحياء العام”، ومع الرملاوي بالتأكيد رفيقة عثمان ونزهة أبو غوش اللتين كانتا من ضمن جوقة التحريض في عام 2019، في هذا العام بالغتا في مدح الرواية ولم تعترضا على “خدش الحياء العام” البالغ مداه في الرواية.
ما هو مفاجئ هذا العام مشاركة الباحثة مريم غسان المصري في المناقشة، وهي من طلاب عدوان في الجامعة، أعربت عن رغبتها لو أن الرواية لم “تهذّب” وبقيت فيها تلك المشاهد، وتصفها بأنها “مقاطع رومانسية جداً”، بل إن مريم تقول: “لو كانت تلك المقاطع موجودة لكانت الرواية بلا شك أجمل”. لا ريب في أنّ “مقاطع رومانسية جدا” تعبير لطيف محبب غير تحريضي، وهذا ما استخدمته مريم، في التعبير عن تلك المشاهد الجنسية في الرواية. رأي مريم يقودني إلى السؤال الآتي:
هل هناك فرق بيني وبين عدوان عدوان؟ هل لأنه محاضر جامعي وأنا “مشرف تربوي”؟ هل يحق لمحاضر الجامعة أن “يخدش الحياء العام” وليس للمشرف التربوي هذا الحق؟ هذا إن سلمنا أننا “خدشنا الحياء العام” أنا وعدوان وكل الأدباء في العالم. يبدو أن “سلطة الجامعة الأكاديمية” ساهمت في منح “عدوان” حصانة في الكتابة الإبداعية على الرغم من أن عمله في الجامعة بين الطالبات والطلاب، وترويجه لروايته بينهم قد “يفسر” على أنه تحريض على الرذيلة والترويج لها، فهذا الأدب يسبح بين طلاب محرومين في عز الضجة الجنسية والشهوة، وطالبات جميلات صبايا متأنقات. إن رواية مثل هذه، اتساقا مع منطق “نساء ندوة اليوم السابع” تصب البنزين على نار الشهوة الجامعية! لكن لم يحدث مثل هذا مع عدوان، لماذا يا ترى؟
هل الانتماء السياسي لعدوان عدوان حصن آخر يحتمي به، فهو من “أبناء الأصفر” المحسوبين على الفصيل الحاكم المتحكم فينا، فيمنح شاهدات إبداع لأتباعه وخدّامه، في حين يصدر شهادات إعدام لآخرين ممن لا ينتمون إلى هذا الفصيل أمثالي. فتعقد لهم “المحاكمات الجائرة” والتهديد والوعيد والحرمان من الكتابة، فنحن ممن لا يؤيدون الحكومة، بل ويلعنون ما تأتي به من سياسات أفقرت الشعب اقتصاديا وروحيا، حتى “دخلنا جحر ضب الأمن العفن”- وضعونا على “Black List”. سيكون ضمن هذا المنطق عدوان مبدعا وكاتبا كبيرا، وأنا مجرد مشاكس ومغامر، ما يعني “إسقاط صفة الأدب” عني وعما أكتب لأحشر في زاوية “قلة الأدب”.
ويبلغ التحدي مداه في الرواية عندما يختار المؤلف نصاً على الغلاف الأخير للرواية، يندرج ضمن معايير “نساء اليوم السابع” تحت مفهوم “خدش الحياء العام”، ولهذا النوع من النصوص المحيطة أهميته في النقد الأدبي، فإبرازه على الغلاف له مهمات متعددة، منها مهمة الإشهار والترويج والإغراء بالقراءة، يقول النص: “سألتُهُ مرَّةً عن الحبّ، فأجاب: الحبُّ شهوة الأرواح، والجنس شهوة الأجساد، وأفضلُ ما يكونان عندما يُصبحان لحمة واحدة. قلتُ له: كيف يكون ذلك؟ فحمل حجَراً وقال لي: آتني بحجر آخر، وأشار إليه، وكان حجر صوان أسود. حمل الحجرين وقال: لا قيمة لأي منهما بعيداً عن الآخر. قدح أحدهما بالآخر فأخرجا شرراً، وقال: يمكن لكَ منْ هذا الشَّررِ أنْ تُشعل العالم. هذان هما الحب والجنس: کائنان منفردان بلا أمل، وعندما يلتقيان يُشعلان ما حولهما ويحرران العالم”. إن المؤلف بهذا المقطع الإشهاري الذي يفترض “السذاجة” بقرائه، ليدفعهم لقراءة الرواية من خلال نص إيحائيّ أيروسيّ ينسى أمر الأندلس ويقزمها في رجل وامرأة يمارسان الجنس عن حب وبحب وفي حب!
حقاً، إنه لا يوجد محظور في اختيار أي نص ليكون على الغلاف الأخير، لكن يجب ألا يُنسى القصديات المصاحبة للاختيار، فهي ليس بريئة تماماُ من النوازع الذاتية الشخصية، وخاصة لدى كاتب جديد ذي تجربة أولى داخل إلى “نادي الرواية” عام 2010، العام الذي نشرت فيه الرواية، ولديه رغبة شديدة في أن يُقرأ، وهذا حقه، بلا شك. وعبّر عن شيء من هذه الرغبة خلال حديثه في نهاية الندوة وخاصة سكوته عن مواطن حذف الناشر لبعض المقاطع، كل ذلك من أجل أن يحظى بنشر رواية له، تصدر عن أوغريت. عدا ما في هذا المنطق من انتهازية واضحة، والتخلي عن شخصية الكتابة لدى الكاتب، فقد كان مستعدا ليدفع أي ثمن لتنشر له الرواية، ولا أثمن من قناعاتك الإبداعية، فكيف له أن يتنازل عنها بهذه السهولة؟
هذه الانتهازية التي لم يتخلص منها أيضا نافذ الرفاعي- الأمين العام السابق لاتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين- عندما أراد أن يستعيد- كما قال في الندوة- مركز أوغريت الممول من الحكومة النرويجية التي كانت تدفع (80) ألف دولار سنويا للمركز، ولأنه يريد مراسلة السفيرة النرويجية عام 2018 بصفة رسمية من اتحاد الكتاب، كون المركز تابعا للاتحاد، غيّر الرفاعي في شعار الاتحاد، وأزال ما في شعار الاتحاد من “كلاشنين”، مدعيا أنه لا يصح أن يراسل الاتحاد وعليه “كلاشنين” من أجل إرجاع أوغاريت. ولعل الثمانين ألف دولار مسيلة للعاب كثيرا حتى يغامر الرفاعي هذه المغامرة، وربما لن يقف الأمر عند الانتهازية، وربما تعدتها إلى احتمالات فساد، والله أعلم، ولكن لا يصح أن نرجم بالغيب، لكن أعتقد أنه ليس بيننا ملائكة أو أنبياء لنمنع مثل هذا الاحتمال.
محمود شقير، خلال حديثه عن الرواية، امتدح ما فيها من “مشاهد جنسية” ولم يعدها “مقحمة” على النص، بل إنه يرى أن تلك المشاهد موظفة “بطريقة ذكية” “ودون سعي إلى الإثارة”، بل إن تداخل الحب مع الجنس شيء ممتاز، ويستعير من الرواية تشبيه ذلك بحجري الصوان عندما ينقدحان معاً، يستطيعان أن يحرقا العالم. هذا الرأي لشقير مهم جدا أدبياً في أنه يؤكد قضية إنسانية الحب وضرورة الامتزاج الروحي والجسدي بين المحبين، وهذه قضية مطروحة في الفلسفة وتحدثتُ عنها كثيرا في كتاب الرسائل، فلا حب دون جنس، وكل علاقة حب دون جنس هي “صداقة” كما تقول مليكة مقدّم. بل إن كل علاقة حب دون جنس أمر لا يعدو كونه تسلية لتزجية الوقت، فمن أحب ذاق وغرق، وإلا فكله “ضحك بضحك” لا يساوي في سوق العلاقات شيئاً.
لكن السؤال المهمّ: لماذا لا يعدّ بناء على تجرية ديوان “ما يشبه الرثاء” ما تحدث به محمود شقير تحريضا على انتهاك معايير المجتمع التقي النقيّ، وإشاعة للفاحشة بين المتأدبين؟ ولماذا لم تعترض “نساء الندوة” على هذا الامتداح العلني لممارسة الجنس بين المحبين؟ فلم تتحدث أية امرأة منهنّ لتدافع عن تخديش الحياء العام الذي تجرّح وجهه كثيرا وتشوّه في هذه الندوة، بل إن هؤلاء النساء، ضمّدن جراح وجهه بالمرطبات ومساحيق تجميل الكتابة المنافقة جداً.
ليس فقط محمود شقير من أفاض بالحديث عن هذا، بل الكاتب نافذ الرفاعي، امتدح جرأة الكاتب عدوان واقتحامه المحرمات الثلاثة: الجنس والدين والسياسة، واعتبره قد جدّف تجديفا عاليا ضمن هذه الثلاثية.
شقير والرفاعي صاحبا حصانة أدبية ويتمتعان بسلطة كبيرة، تحميهما من الانتقاد، ومن أن يحشرا في زاوية “خدش الحياء العام”، لقد صمت كلاهما عما حدث معي عام 2019، ولم يقولا قولا لينا أو خشنا حول الأدب وطبيعته وحرية الأديب، يبدو أنهما لم يسمعا بي ولم يقرأا ديوان “ما يشبه الرثاء”، لكنهما الآن في عام 2025 يمجّدان المشاهد الجنسية، ويجعلانها في مكانها الصحيح، وفي أنها طبيعية، بل لازمة وفنية.
هل ما قامت به “نساء اليوم السابع” ممن شاركن في التحريض عليّ ذلك العام، وتمجيد رواية “عودة الموريسكي” هذا العام يعدّ نوعا من “النفاق الثقافي” أم “جريمة ثقافية” لا تغتفر؟
على هامش لقاء أدبي عقد في رام الله بتاريخ 15/7/2025 التقيت بالمهندس حمدي الزغير، ضابط إيقاع الندوة الإلكتروني، وتناقشنا حول ندوة اليوم السابع، وامتناعي عن المشاركة في لقاءاتها مع أنني أتابع الندوات بعد النشر على اليوتيوب أو في الصحف، وهذا ما أكدته للصديقة الأديبة ديمة السمان خلال جلسة مطولة بعد الندوة. أفصحت للسيد حمدي أن أحد الأسباب التي جعلتني لا أشارك في أعمال الندوة الأسبوعية، هو هذا “النفاق الثقافي”. والآن أتذكر جانبا مهما من هذا النفاق الثقافي مع مناقشة رواية “عودة الموريسكي”، وتعود بي الذاكرة لأرى أن كثيرين امتنعوا عن حضور الأمسيات التي عقدتها الندوة لمناقشة كتبي، ومنهم على سبيل المثال، شقير، والرفاعي، وصافي صافي.
أرجو ألا يفسّر هذا الحديث على أنه ضد ندوة اليوم السابع المقدسية العريقة، فلا داعيَ لأقدم أوراق اعتماد في حب هذه الندوة، ولكن ثمة أمراض مستشرية في الحياة الثقافية بعامة، ولا شك في أنها ستطال الندوة، شئنا أم أبينا. أو أن يفسّر أنه تحريض على زميل الدراسة الجامعية عدوان عدوان وروايته، إن الأمر ليس أكثر من بحث عن “العدالة الثقافية” المفتقدة في أوساط المثقفين، وألا يبدّل الكتّاب نظّاراتهم وقلوبهم وعقولهم حسب الكاتب وتوجهاته وموقعه وعمله.
وفي ذيل هذه الكتابة، سؤال موجّه للدكتور صافي صافي الذي نصحني مؤخراً على هامش تلك الندوة الأخيرة في رام الله أن أبتعد عن الأشخاص، فهل يمكن بمثل هذا النفاق الثقافي والجرائم الثقافية أن يتجنب الإنسان مثل هذا المطبّ؟ على الرغم من أنني لست “شخصانياً” لكن يحب صافي، ومعه لفيف من مثقفي الحياد الأصفر الباهت أن يصفوني بأنني “أشخصن الأمور”، فلا أدري كيف لكاتب أن يكتب عن هذه “الحساسية الثقافية” دون أن يذكر أسماءً. هل يستطيع أن يكتب عن ظاهرة مثل “ظاهرة اليوم السابع” دون أن يذكر بعض منتسبيها أو بعض ما يجري فيها من تشوّهات ثقافية، ليست هذه الظاهرة إلا واحدة منها؟