ليلة في هافيكسبيك*

عبدالرزاق محمود عبدالرحمن

الوقت يقارب الثالثه ليلا،

في هذه القريه الألمانية البعيدة ،يجلس إلى طاولته الخشبيه المزدحمة بالاقلام وكتاب لغه المانيه وتبغ وقنينه فودكا.

إلى جواره يجلس ضيفه باسم الملقب بأبي حاتم يدخن الأركيله في صمت ثقيل ،الدخان يتسلل ببطء نحو النافذة المفتوحة ليتلاشى مع ضوء القمر .

وقف فجأه أمام الشباك يراقب القمر المكتمل بدرا وأرنبين يافعين يقفزان فوق المرج الأخضر كعاشقين تحت الشباك .

بادر ضيفه بسؤال كأنه يستكشف سرا دفينا :هل ذقت طعم العلقم ياصاحبي؟هل عرفته في مراراته تلك التي لا تنسى؟

أبا حاتم(مستغربا):ماذا تقصد بالعلقم!؟

هو(حاملا كأسه):انظر هذه وحدها تنسيني طعم العلقم!وتجرعها دفعه واحدة…،ابتسم بسخرية دون أن يلتفت :الفشل ياصاحبي مر ..مر وأكثر 

أبا حاتم: كيف تكون فاشلا وأنت تحمل شهادة جامعيه ووهبك الله موهبة يحلم بها الكثيرين .

-هههه (خرجت من حلقه كغصة ألم مخنوقة)

هناك ما لا تعرفه يا صاحبي …ثمة جرح عميق ينزف داخلي…لا أستطيع البوح به ،لقد هربت من الفشل مرات كثيرة ونجحت ،أما هذه المرة كسرت…العاصفة كانت عكسي …حاولت جاهدا مقاومتها لكنني تعبت وفي منتصف الطريق سقطت …سقطت منكسرا. 

-أبا حاتم(مواسيا): لاتقل هذا ياصاحبي ،انت أقوى من أية عاصفه ،ستمر هذه الغيمة والقادم أجمل.

ارتشف قدحا آخر على عجل وكأنه يطرد شيئا بداخله …. لف لفافة تبغ وأشعلها ثم استنشق الدخان بنهم كأنه يريد استنشاق الحياة التي طالما كان يحلم بها ،تنهد قليلا وقال :هذه المرة الكسر عميق ولن أعود كما كنت ولا حول لي ولا قوة.

التفت فجاة إلى جاره يسأله:أبا حاتم …هل هذا هو القدر !؟

-أبا حاتم(محاولا تهدئته ): كل شئ في الحياة مقدر بقدر ولا بد أن نؤمن به،ولكن تفاءلوا بالخير تجدوه .

استدار يراقب الأرنبين وهما يقفزان بنشوة ويجزان العشب وأردف :يا ليتني أستطيع التفاؤل …التفاؤل يحتاج صبر وقوة وأنا لا أملكهما الآن …  لم يعد لهما  صراحة معنا و قيمة…ربما كنت ضعيفا …ربما ضيعت الكثير من الفرص …أو ربما لم يكن باستطاعتي فعل الأكثر.

لا أريد أن اتذكر الماضي والطفولة التعيسة ونتائجمها على شخصيتي الآن ،ولكن ما أنا متأكد منه أني كسرت.

أنا متأكد ايضا يا أبي حاتم أنني سأتقلم مع كسري هذا وسأتعود مرارة العلقم ،الإنسان مخلوق غريب …يتعود على كل شئ ويتأقلم،ثم جلس يد خن بهدوء يراقب القمر مجددا،أما جاره سحب نفسا عميقا من دخان أركيلته  وزفرها رافعا رأسه فبدا الدخان أبيضا كثيفا كدخان قطار الفحم القديم يخرج من الشباك وهو يراقب أيضا  البدر الجميل  في قلب السماء.

=================

*ملاحظه هافيكسبيك ضيعه قريبه تبعد ٢٠ كم عن مونستر الالمانيه

 

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إدريس سالم

 

ليستِ اللغة مجرّد أداة للتواصل، اللغة عنصر أنطولوجي، ينهض بوظيفة تأسيسية في بناء الهُوية. فالهُوية، باعتبارها نسيجاً متعدّد الخيوط، لا تكتمل إلا بخيط اللغة، الذي يمنحها وحدتها الداخلية، إذ تمكّن الذات من الظهور في العالم، وتمنح الجماعة أفقاً للتاريخ والذاكرة. بهذا المعنى، تكون اللغة شرط لإمكان وجود الهُوية، فهي المسكن الذي تسكن فيه الذات…

مازن عرفة

منذ بدايات القرن الحادي والعشرين، يتسارع الزمن في حياتنا بطريقة مذهلة لا نستطيع التقاطها، ومثله تغير أنماط الحياة الاجتماعية والإنسانية، والاكتشافات المتلاحقة في العلوم والتقنيات، فيما تغدو حيواتنا أكثر فأكثر لحظات عابرة في مسيرة «الوجود»، لا ندرك فيها لا البدايات ولا النهايات، بل والوجود نفسه يبدو كل يوم أكثر إلغازاً وإبهاماً، على الرغم من…

أصدرت منشورات رامينا في لندن كتاب “كنتُ صغيرة… عندما كبرت” للكاتبة السورية الأوكرانية كاترين يحيى، وهو عمل سيريّ يتجاوز حدود الاعتراف الشخصي ليغدو شهادة إنسانية على تقاطعات الطفولة والمنفى والهوية والحروب.

تكتب المؤلفة بصدقٍ شفيف عن حياتها وهي تتنقّل بين سوريا وأوكرانيا ومصر والإمارات، مستحضرةً محطات وتجارب شكلت ملامحها النفسية والوجودية، وموثقةً لرحلة جيل عاش القلق…

غريب ملا زلال

رسم ستار علي ( 1957_2023 ) لوحة كوباني في ديار بكر /آمد عام 2015 ضمن مهرجان فني تشكيلي كردي كبير شارك فيه أكثر من مائتين فنانة و فنان ، و كان ستار علي من بينهم ، و كتبت هذه المادة حينها ، أنشرها الآن و نحن ندخل الذكرى الثانية على رحيله .

أهي حماسة…