القناني الفارغة / قصة قصيرة.

ماهين شيخاني

منذ الصباح وأنا أحمل ثِقَلًا غريبًا في صدري، فكرة واحدة تلسعني:
لماذا لم أسأله عن اسمه؟
لماذا لم أقترب منه لأعرف من أي أرض جاء.؟.

المشهد لا يفارقني، حتى بعد أن حكيته لصديقي الطبيب، وحتى بعد أن سردته على مائدة العشاء لأهلي. لكن الكلمات لم تخفف وطأته، ولا أظنها ستفعل.

كنت أسير في شارعٍ مكتظٍّ، حيث أبواق السيارات والضجيج المعتاد، حين توقف كل شيء فجأة.
رأيته…
رجل مسن، في حدود السبعين، أنيق بطريقة تستفز الألم: قميص أبيض مكوي بعناية، حليق الذقن، بيده اليمنى عكاز خشبي يئن تحت ثقله، وفي يسراه كيس بلاستيكي أبيض بدا كأنه آخر ما تبقى له من الدنيا.

انحنى فجأة. التقط شيئًا من الأرض. قنينة بلاستيكية فارغة. وضعها في الكيس، وأكمل سيره. بعد خطوات قليلة، كرر الحركة نفسها، بجانب سيارة مركونة. لم يكن يبحث عن شيء سقط منه، كان يبحث عن فتات الحياة.

اقتربت منه ببطء، ربما بدافع الفضول، وربما لأن قلبي لم يتحمل المشهد. كان يلتقط القناني بخجل كمن يلتقط خطاياه من الطريق. نظرت في عينيه، كان فيهما بريق غريب، خليط من الكبرياء والانكسار. لم أتمالك نفسي، سألته:

– عمّو… ليش عم تتعب حالك بهالحرّ..؟.
رفع رأسه نحوي، مسح عرقه بكم قميصه، وابتسم ابتسامة قصيرة، كأنها ضوء شاحب في آخر النفق:
– حتى أشتري خبز… يمكن تكفيني لربطة.

صمتُّ. لم أعرف ماذا أقول. كل الجمل الجاهزة ماتت على لساني. هممت أن أخرج شيئًا من جيبي، لكنه أشار بيده:
– لا، لا… ما بدي مساعدة. أنا مو شحاد…أنا عم أشتغل.

ثم انحنى مجددًا ليلتقط قنينة أخرى. كان صوته في أذني كسقوط جدار من الطين:
“أنا عم أشتغل”.

تجمّدت في مكاني. رأيته يبتعد، والعكاز يطرق الأرض بإيقاع مكسور، كأنه يكتب قصيدة حزن على الإسفلت. أردت أن أتبعه، أن أقول له: “خدني معك”، لكن قدماي لم تتحركا.

وبينما كان يختفي عند منعطف الشارع، لاحظت شيئًا جعل الدم يتجمد في عروقي:
على طرف الكيس الأبيض، كان مكتوب بخط أزرق باهت:
“المعونة الاجتماعية – برنامج دعم الفقراء”.

شعرت وكأن أحدهم صفعني. الرجل الذي يُفترض أن تكون له دولة تحمي شيخوخته، صار يلتقط القوارير ليشتري خبزًا… والكيس الذي يحمل رزقه المغموس بالذل يحمل شعار تلك الدولة نفسها..!.

عدت إلى البيت مثقلاً بالعار. جلست أمام الورقة لأكتب، كأنني أريد أن أُخرج شوكة من صدري. كتبت:
ليتني لم ألمحك… أيها الغريب النبيل.
ليتني لم أرَ كرامتك تُسحق تحت عجلات الحاجة.
ليتني لم أكن شاهدًا على موت العدالة في وضح النهار.

لكنني كتبت أيضًا جملة أخرى، مزّقتني قبل أن أنهيها:
“ربما كنتَ أنتَ الغريب، لكننا كلنا قناني فارغة… تبحث عن من يجمعها.”

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

أحمد مرعان

في المساءِ تستطردُ الأفكارُ حين يهدأ ضجيجُ المدينة قليلًا، تتسللُ إلى الروحِ هواجسُ ثقيلة، ترمي بظلالِها في عتمةِ الليلِ وسكونِه، أفتحُ النافذة، أستنشقُ شيئًا من صفاءِ الأوكسجين مع هدوءِ حركةِ السيرِ قليلًا، فلا أرى في الأفقِ سوى أضواءٍ متعبةٍ مثلي، تلمعُ وكأنها تستنجد. أُغلقُ النافذةَ بتردد، أتابعُ على الشاشةِ البرامجَ علّني أقتلُ…

رضوان شيخو

 

ألا يا صاحِ لو تدري

بنار الشوق في صدري؟

تركتُ جُلَّ أحبابي

وحدَّ الشوق من صبري.

ونحن هكذا عشنا

ونختمها ب ( لا أدري).

وكنَّا (دمية) الدُّنيا

من المهد إلى القبر..

ونسعى نحو خابية

تجود بمشرب عكر..

أُخِذنا من نواصينا

وجرُّونا إلى الوكر..

نحيد عن مبادئنا

ونحيي ليلة القدر

ونبقى…

ماهين شيخاني

مقدّمة

في أروقة الملاحم الإيرانية القديمة، يبرز اسم رستم زال كبطلٍ استثنائي، يشبه في أسطورته من يُشبهه من أمثال هرقل عند الإغريق أو بيولوف عند الشعوب الجرمانية. لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه بقوّة في سياقنا اليوم: هل هو بطلٌ فارسي خالص، أم يمكن اعتباره أيضاً شخصيةً ذات صلة بالتراث الكوردي..؟. وكيف ننظر إلى…

عِصْمَتْ شَاهِينَ الدُّوسَكِي

 

أَنَا الْآتِي عَبْرَ الزَّمَانِ

أَبْحَثُ عَنْ عَيْنَيْكِ

لِأَدْنُوَ مِنَ السَّلَامِ

أَنَا الْمُتَيَّمُ الْحَائِرُ

يَا مَلِكَةَ الرُّوحِ يَا نَبْعَ الإِلْهَامِ

لَا تَهْجُرِي صَبَاحَاتِي مَسَاءَاتِي

طَيْفُكِ يُدَاهِمُنِي فِي النُّورِ وَالظَّلَامِ

يَا جَمَالَ الزِّيَارَاتِ الْمُلْهَمَةِ

وَصَمْتَ مِحْرَابِ الْهُيَامِ

دَثِّرِينِي أَنْقِذِينِي

مِنْ جُنُونِ الْوَحْدَةِ وَالظَّمَإِ وَالصِّيَامِ

عَطَشِي كَعَطَشِ الْحُسَيْنِ

فِي صَحْرَاءَ جَرْدَاءَ

تَحْتَ حَرِّ الشَّمْسِ بِلَا كَلَامٍ

لَا أُحَارِبُ مَنْ يُلْهِمُنِي

فَالْحُبُّ يَسْمُو فَوْقَ السُّحُبِ وَالْغَمَامِ

تَسِيلُ دِمَاءُ الْعِشْقِ عَلَى جَسَدِي

تُحْرِقُ مَسَامَاتِي رَغْمَ…