مزكين حسكو ابنة الشلومية التي كتبت القصيدة كما يُكتب الوطن: في كتاب للناقد والمترجم إبراهيم محمود

إبراهيم اليوسف

يأتي الاسم- هكذا- ممتلئاً دافقاً بالبشرى بما يكفي ليشغل فضاءً واسعاً في ذاكرة الإبداع، والتشبث بالوطن وجباله وسهوله. دروبه. قراه. مدنه. وجوه ذويه. مزكين حسكو ليست مجرّد أديبة شاعرة وساردة تكتب قصائدها وأدبها بلغتها الأم، بل جذرٌ عميق في تربة القصيدة الكردية، فرعها الذي لا ينحني مهما تبدّلت الرياح. لم تأتِ من الهامش، بل من قلب الشلومية، ومن بلدة تربسبي التي حفظت خطوات طفولتها في أزقتها الضيقة، ومن ملاعب القرى التي نسجت أحلامها الأولى بوطنٍ اسمه كردستان، فزاوجت بين لغتها التراثية واجتهادها الدائب، لنكون أمام لغة جديدة تفوح بعبق حرائق روحها وأصابعها.

المكالمة الأخيرة التي تمت بيننا- اليوم- لم تكن مجرد اتصالٍ عابر. بدا الصوت كأنه يحمل معه تاريخاً من التفاصيل والعناوين، كأن الكلمات تتسلل منه بصفاء الينابيع. حدّثتني عن الكتاب الجديد الذي صدر عنها وفيه حوار قديم جمعني بها، نشره الصديق إبراهيم محمود، ضمن كتابه الترجمي والنقدي الشامل، إذ غدا الكتاب أشبه بمرآة صافية تعكس ملامح روحٍ كرّست حياتها للشعر والأدب منذ كانت تتعلم أول الأبجدية. في كل فصل من فصوله، تتبدّى ملامح تلك الطفلة التي لم تر في الكتابة ترفاً، بل ضرورةً للحياة، ونافذةً على الأفق الرحب، وهي تكتب بالعربية، ثم تهجرها إلى لغتها الأم، الأحوج إليها، رغم كل التحديات.

تحدثنا عن مشروع أمسية احتفالية جديدة، كما الأمسية الشعرية التي أقيمت لها في بيليفلد. المدينة كأنها تعرفها منذ زمن بعيد. الجمهور لم يكن جمهوراً عادياً، بل وجوهاً مألوفة شعرت بها مزكين كما لو أنها وجدت نفسها وسط أهلها. حلقت الصور في القاعة خفيفةً متقنة جميلة كأجنحة العصافير والفراشات، واستقرّت في ثنايا الأرواح من دون استئذان. كانت الأمسية تذكيراً بأن القصيدة ما تزال قادرةً على فتح أبواب الأمل، وأن المنفى لا يستطيع أن ينتزع من الشاعرة مكانتها في قلوب من يحبون الكلمة الصافية.

وعن مشروع زيارة جديدة للقاء بها من قبل موفد من الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد، كما الموفد في ذلك اليوم الاحتفائي الاحتفالي الذي لم ترَ فيها احتفالاً رسمياً بقدر ما رأته اعترافاً بقيمة مشروعٍ شعريّ صادق. لم تسعَ يوماً إلى الأوسمة، لأنها تعرف أن القصيدة هي الجائزة الكبرى، وأن القارئ الحقيقي لا يحتاج إلى توجيهٍ كي يشعر بحقيقة ما تقرأه عيناه.

خلال حواري معها تحدّثت عن مسقط رأسها الشلومية، لم يكن حديثها عن حيٍّ في بلدة صغيرة، بل عن مدرسةٍ كاملة. قالت ما معناه: إن هذا المكان كان تعويضاً عن ثغرات اللغة التي كانت تتعثر أحياناً على ألسنة الصغار. القرية منحتها الإيقاع الأول، الصوت الذي سيكبر لاحقاً في القصيدة، الألفة التي صارت معياراً لكل بيتٍ كتبته لاحقاً. في الشلومية تعلّمت كيف يمكن للمكان أن يصبح ركناً من أركان اللغة، وكيف يمكن للبيت الطينيّ أن يتحوّل إلى استعارةٍ لأوطانٍ كاملة.

في حديثها عن أسرتها، بدا الاعتزاز واضحاً. لم تتحدث عنهم بوصفهم ظلاً يرافقها، بل عمقاً يمنحها القدرة على المواصلة. كل قصيدة بالنسبة إليها تبدأ من ذلك البيت الذي احتضن طفولتها، ومن المائدة التي جمعتها مع إخوتها، ومن دفء العلاقة مع والديها. الأسرة بالنسبة إليها ليست مجرد صلة دم، بل السقف الذي يحمي القصيدة من الانكسار.

المسافة بين طفلة الشلومية وتربسبي والشاعرة المقيمة في المغترب لم تُفقدها شيئاً من انتمائها. إذ كتبت بلغتها الأم دون مساومة، لأن اللغة بالنسبة إليها ليست أداةً للكتابة فقط، بل هويةٌ كاملة. كل نصّ كتبته كان بمثابة إعلانٍ أنها ما تزال هناك، في المكان الذي منه خرجت، في الحقول التي تركض فيها أحلامها، وفي الأزقة التي كانت تلمح فيها الأفق.

كما إن “آلا رنكين”، أو علم كردستان، في قصيدتها، لم تكن مجرد لبنات أو مفردات في عمارة شاهقة كما الطود، ولا مجرّد وصفٍ لألوانٍ على قماش. كان الصوت في النص يرتجف بحبٍّ يشبه الحب الأول. العلم بالنسبة إليها ليس رمزاً سياسياً، بل هو شريانٌ يذكّرها بأن الحلم بوطنٍ حرّ ما يزال حيّاً مهما طال الانتظار. حيث لم تتوقف عن الحلم، لأن الحلم بالنسبة إليها هو الطاقة التي تمنح القصيدة نبضها الدائم.

مزكين حسكو لم تبحث يوماً عن جمهورٍ واسع، لأنها تعرف أن القصيدة لا تُقاس بعدد من يصفقون، بل بصدق من يقرأ. كتاباتها لا تسترضي أحداً، ولا تهادن من أجل اعترافٍ خارجي. لهذا السبب تبدو قصائدها كأنها تُكتب في غرفةٍ مغلقةٍ يطلّ بابها على العالم بأسره. قارئها يشعر أنه أمام تجربةٍ لا تحتاج إلى وسطاء، وأن الكلمة تصل إليه بصفائها الأول كما خرجت من روحها.

في كل نصّ لها، ثمة عودةٌ إلى الطفولة، إلى الحقول التي كانت تركض فيها، إلى أصوات الطيور في الصباحات الباكرة، إلى وجوه الجيران الذين كانوا يحيّونها بابتسامةٍ صادقة. القصيدة بالنسبة إليها ليست انفصالاً عن الماضي، بل امتدادٌ له. هي طريقةٌ للحفاظ على ذلك الماضي حيّاً، طريقةٌ لحمايته من النسيان، وللتأكيد على أن الهوية لا تتبدّد مهما تفرّقت الطرق.

حين تسمع صوتها، تدرك أن القصيدة لا تزال تمشي على الأرض. الكلمات التي تنطق بها مزكين تبدو كأنها تخرج من أعماقٍ بعيدة، وكأنها تحمل معها خبرة المكان والزمان. أجل. إنها ليست شاعرةً عابرةً في مشهد الأدب الكرديّ الجديد، بل اسم وازن، وعلامة على أن اللغة الأم يمكن أن تكون قادرةً على التعبير عن كل ما يعتمل في النفس البشرية من حبٍّ وخوفٍ وأمل.

من يتابع مسيرتها يدرك أنها لم تكتب طلباً للمجد، ولم تبحث عن المنابر الكبيرة، بل عن لحظة صدقٍ بينها وبين النص. هي تعرف أن القصيدة إذا لم تكن صادقة، فلن تمكث طويلاً. لهذا السبب تبقى نصوصها قادرةً على لمس روح القارئ مهما تغيّر الزمان، أنى كان شرط الحب حاضراً.

محبو تجربتها الذين حضروا أمسياتها في إيسن أو بيليفيلد أو في أماكن أخرى، لابد وأنهم يشعرون أنهم لا يستمعون إلى شاعرٍ يقرأ نصوصه، بل إلى امرأةٍ تحكي حياتها كما هي. لا تنفصل عن النص، ولا تحاول أن تجمّله أكثر مما تستشعره، بل ضمن حدود تفاعلها وعوالمها الشعرية، سواء أكانت نصوصها برقية، مكثفة، أم ذات نفس ملحمي. تقول ما يجب أن يُقال فقط، وتترك للقصيدة أن تتكفّل بالباقي.

الكتاب الجديد عنها ليس مجرد تأريخٍ لتجربة شعرية، بل هو احتفاءٌ بامرأةٍ جعلت من اللغة الأم قلعتها الأولى والأخيرة. في صفحاته يجد القارئ ملامح تلك الطفلة التي حملت حلم كردستان في قلبها، وكتبت من أجله كل نصٍّ أضاء دروبها في المنفى.

الحياة بالنسبة إلى مزكين ليست مفصولةً عن الأدب. كل لحظةٍ تعيشها يمكن أن تتحوّل إلى قصيدة، وكل قصيدةٍ يمكن أن تعيدها إلى البيت الأول. هي تعرف أن العودة ليست دائماً عودةً بالجسد، بل بالذاكرة. والذاكرة التي تسكنها مزكين ليست ذاكرةً حزينة، بل ذاكرةٌ خصبةٌ تعيد إنتاج الحياة حتى في أكثر اللحظات صعوبة.

من يقرأ لها أو يسمعها، يشعر أن الوطن لا يزال ممكناً، وأن الحلم لا يزال قائماً، وأن القصيدة يمكن أن تكون الجسر الذي يعيدنا إلى أنفسنا. مزكين حسكو تكتب لتؤكّد ذلك، لتؤكّد أن اللغة الأم ليست مجرد أداةٍ للتعبير، بل هي الحياة نفسها، وهو ما يجعلني- دائماً- في انتظار ترجمتها لإحدى مجموعاتي إلى لغتنا الأم الكردية، كما خططت لذلك في حقبة الزمن ما قبل الكوروني.

من هنا فإن اسم مزكين، من خلال وجهة نظري، سيظلّ علامةً في الإبداع الكرديّ.  فهي لم تكتب نصوصاً عابرة، بل نصوصاً تحمل روح المكان الذي جاءت منه، وأحلام الناس الذين تحبهم. كما هم، وكما تريدهم وفي كل نص تكتبه، يلمح القارئ عنواناً أو لبنة بيت جميل في الشلومية يُضاء من جديد، وحلماً بكردستان يكبر في الأفق

 

*سماء على أرضها: حول تجربة الكتابة لدى الكاتبة والشاعرة الكردية مزكين حسكو ومختارات مترجمة دار الزمان- 2025.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إلى السيدة فيروز، صوت الصباحات السورية، وعطر الزمن الجميل،

أعتذر منكِ، أنا المواطن السوري الذي كبر على أغنياتك، واستيقظت بلاده على صوتك عقوداً طويلة، أن أكون من بلدٍ لم يُحسن، رسمياً، الوقوف إلى جانبك في لحظة وجعك الكبير.

أعتذر لأنكِ خسرتِ ابناً، وخسرتِ معه جزءاً من قلبك، بينما بلدي التي أحبّتْكِ ولم تعرف صباحاً دونك، صمتتْ… أو…

عصمت شاهين الدوسكي

الاحساس المرهف يفجر المشاعر المكنونة والآمال الميتة

كلیزار أنور عندما فتحت عیناھا للحیاة وعرفت بعض أسرارھا، قاومت كل الأشواك التي تحیى حولھا ،أبت أن تكون نرجسه نائیة ، جرداء ، بلا نور ، خرجت من بین الطلاسم المظلمة لتغیر ذلك الهواء بهواء نقي وترفض التقالید الفكریة البالیة ، رسمت لنفسھا طریقا وعرا، شائكا، غائرا…

عبد الجابر حبيب

 

خطوةٌ واحدةٌ منكِ،

تكفي لتهوي الأبوابُ الثقيلةُ

التي حُشرتْ خلفها حكاياتُ الألمِ.

 

بخطوةٍ أخرى منكِ

سينهارُ الهرمُ المشيَّدُ فوقَ صدورِ الجائعين،

وتبتلعُ الأرضُ عذابَ البؤساء.

 

حتى بإيماءةٍ منكِ،

تعودُ إلى أصحابِها

مفاتيحُ المدنِ المفقودةِ،

ويجفُّ الحبرُ على النهاياتِ القديمةِ،

وتنفكُّ الأقفالُ عن السجونِ

دون أن يلمسَها أحدٌ.

 

بهمسةٍ منكِ،

واثقٌ بأن أصواتَ القتلةِ ستختفي،

ويذوبُ صليلُ البنادقِ

في فراغٍ لا حدودَ له،

وتسقطُ تماثيل اعتلَتْ عروشَ يأسِنا.

 

نعم، بمجرّدِ حضورِكِ،

يتمزّقُ…

إبراهيم سمو

شعرية الجرح والتحوّل أو ثلاثية التمرّد والرومانسية والمفارقة:

يشكّل شعر سعيد تحسين صوتا متفرّدا في مشهد الشعر العربي الحديث، يتميّز بقدرته على التوليف بين التوتّر الداخلي والاختراق الجمالي، بين الحُلم والخذلان، وبين اللغة بوصفها خلاصا، والوجود بوصفه سؤالا معلّقا.

يغترف “مهندس الأعمال الشعرية الكاملة” جوهر قصيدته من حواف الذات لا من استقرارها؛ حيث يتقاطع العاطفي…