كاوا درويش
هناك في أقصى نقطةٍ في أعالي البحار من جهة الشرق، تقع جمهوريتنا التي تسمى بجمهورية الموز أحياناً أو بجمهورية البطيخ أحياناً أخرى… دويلةٌ لا تكاد تُرى على الخريطة، صغيرةٌ بحجم عقل رئيسها الذي لا يهدأ في إتحاف مواطنيه بقراراته الباذخة، وآخرها كان قراره حجب أشعة الشمس بغربالٍ خشية تلوّن وجوه مواطنيه باللون الأسمر لعقدةٍ يعاني منها سيادته منذ الصغر…
وُلِدَ رئيسنا وفي فمه ملعقةٌ من ذهب ولكن الملعقة فُقِدت منه في انقلابٍ فاشل قاده ابن عمه ضده وهما لا يزالان يلهوان في دور الحضانة، فأُضطرَّ بعدها لفتح بسطة بسكويتٍ ليعتاش منها هو وأهله، ثم أسّس من أرباحها شركة إنتاجٍ تلفزيوني وهكذا علا شأنه حتى تقلَّد منصب رئيس لجان الطبل والزمر في مجلس الشعب، ليُكافَأَ بعدها بتسليمه رئاسة مجلس الوزراء، وبقي فيها حتى قاد انقلابه الشهير ليصبح على أثرها رئيساً للبلاد في ليلة الثاني عشر من تموز – ليلة عيد ميلاده المجيد-.
في كل مساءٍ من ليلة الثاني عشر من تموز “المجيد” يجتمع المواطنون حول شاشة التلفاز، على القناة الوحيدة التي يملكها الشقيق الوحيد لسيادة الرئيس، ويعمل فيها ابنه كمذيعٍ وحيد، ينتظرون خطابه السنوي الوحيد بفارغ الصبر، ليستمعوا له وهو يعلن عن قراره برفع الأجور والرواتب.
يبدأ المذيع النشرة بعبارة: ” نحيّيكم تحية الحقّ والصمود، ونعتذر منكم نيابةً عن السيد الرئيس الذي ذهب للنوم ليكمل حلمه الذي رآه البارحة، وأنا الآن هنا لأخبركم عن تفاصيل حلم سيادته…
في هذه اللحظة يتسمّر الجميع بمن فيهم الوزراء وأعضاء البرلمان وأعضاء مجلس الإفتاء لمعرفة أي شيءٍ عن حلم الرئيس، فأحلام سيادته أهم بكثيرٍ لديهم من قرار رفع الأجور والرواتب.
لقد رأى سيادته نفسه يطير عالياً، يحلِّق فوق قطعانٍ ضاحكةٍ وهي تقطع الصحراء، ولكنه في الوقت نفسه لم يلحظ أي أثرٍ لأيٍ من تلك القطعان أصلاً!! وهذا يعني بحسب مكتب تفسير الأحلام في ديوان الرئاسة محاكمةً ميدانيةً للصحراء وللراعي أيضاً بتهمة التآمر ضد الجمهورية وإثارة النعرات القطيعية.
بالموازاة أُنشئتْ محكمة العقارات المتآمرة، حيث شَرعتْ بإجراءات محاكمة عشرة من متعهدي العقارات والمقاولين الصغار بتهمة الانتماء لتنظيم – عقاراتٌ بلا ولاء- المحظور، حيث أَجبرَ القضاة العقاريون هؤلاء المتعهدين على الاعتراف بأنهم زاولوا مهنة تجارة العقارات سراً من دون الحصول على موافقة وزارة الأوهام الاستراتيجية.
أما المعارضة فقد اُختزِلَتْ بسياسيٍ وحيد يُدعى العم جابر الخباز الذي كان يعمل في بيع الخبز فوق جسر الثاني عشر من تموز المجيد، وحين شُوهِد العم جابر خبَّاز يردد مرةً بأعلى صوته مقولة عادل إمام “الرغيف كبيييير والشقق فاضيييية” أُلقي القبض عليه بجرم السبِّ والتشهير وتشويه سمعة الرغيف والشقق السكنية.
وفي يومٍ من الأيام المباركة قرر الرئيس إجراء انتخاباتٍ “حرةٍ” في البلاد، فرشَّح نفسه ضد نفسه، وأَغلق باب الترشح في نفس الدقيقة، لتتحول الساحات العامة فجأةً إلى منصاتٍ عامرةٍ بالخطابات والقصائد الوطنية، وتغدو بعدها الأيام التي سبقت الانتخابات بما فيها يوم الصمت الانتخابي أعراساً حقيقيةً احتفاءً بسيادته، فتزيّنت شوارع وساحات الوطن بحلقات الدبكة والرقص التي أبدع في إحيائها الفنان غسان الجمّولي، وفاز بنتيجتها السيد الرئيس على نفسه بنسبة 105 ٪ ،ولكن قرار إعلان فوزه تأخَّر أسبوعاً كاملاً لأن نفسه طَعنتْ ضده في نتيجة الانتخابات أمام المحكمة الدستورية العليا التي يرأسها هو نفسه، إلى أن تم إعلان فوز الرئيس في منتصف ليلة الثاني عشر من شهر تموز المجيد ليلة عيد ميلاد السيد الرئيس “حفظه الله ورعاه” …
وهكذا بقينا وبقيتْ جمهوريتنا – جمهورية الموز والبطيخ- صامدةً على حالها مدّةَ نصف قرنٍ كاملٍ من الزمن تنعمُ فيه بالأمن والأمان وبكمياتٍ وافرةٍ من البطيخ والشمّام. جمهوريةٌ لا يحتاج فيها الكبار لشيءٍ سوى للجمهورية، ولا يحتاج فيها الصغار لشيءٍ سوى للقليل من الخبز والشمس وبضع حباتٍ صغيرةٍ من الموز وأنفاسٍ كافيةٍ من الهواء وفيتاميناتٍ ضروريةٍ لاستمرار الحياة…
==============
كاوا درويش، محامي وكاتب قصصي.