حين تواطأت الرياح مع الخرائط

مصطفى عبد الوهاب العيسى

حين تكون القضايا عادلة ، فإنها تمنح المناضلين والمؤمنين بها والمناصرين لها مساحة واسعة في الفكر والأدب ، ليهمسوا بها وللعالم همساً لطيفاً ، وبرقةٍ وأناقةٍ وهم يطرحونها ويعبرون عنها بأساليبهم المختلفة ، كقصيدة ، أو رواية ، أو مقال ، أو كتاب ، أو .. الخ ، وهذا ما يبدو جليَّاً في رواية حين تواطأت الرياح مع الخرائط للدكتور عمران علي ، والتي كان أول ما تبادر إلى ذهني بعد قراءتها : أطروحة رائعة ومتميزة في القضية الكردية .

ليست أطروحة متميزة في تناول القضية الكردية فحسب ، بل تتجلى روعتها فيما تطرحه بين السطور من عشرات القضايا – عند الغرق في تفاصيلها – كبراءة الطفولة ، وتشوه هذه الطفولة ، إضافة إلى مراجعة فهمنا لكثير من الأمور الغيبية ، وقد أبدع الكاتب في تحفيز القارئ على إطلاق العنان لخياله ، والتفكير في كمِّ ونوع القضايا التي تطرحها الرواية ، والمتاهة الممتعة التي يعيشها أثناء الحديث عن الخرائط التي باتت حديث الساعة سياسيَّاً في المنطقة .

تميل قوالب الدراسات النقدية التي تتناول الروايات عادة إلى الحديث – وبشكل شبه مؤكد – عن الاستفاضة لدى الكاتب ، وهو ما لا أتفق معه شخصيَّاً ، إذ أرى أن الإطالة ، وإن كانت تُعد لعنة في نظر البعض ، فهي من اللعنات المُحببة عندي ، وقد برز في هذه الرواية بشكل واضح مدى قدرتها على إدخال القارئ في حالة من التكامل ، وجذبه إلى جميع السرديات الفلسفية ، والنقاشات التي دارت بين الحيوانات ، بل وتعاطفه وتركيزه مع مختلف الحوارات التي كانت تجريها بعض القطط مثلاً كـ”بوزو” ، و”نيمران” ، و”بيلاو” ، و”دشتو” فيما بينها .

تُعد قدرة الكاتب على التعبير أمراً في غاية الأهمية ، غير أن تميُّز الرواية لا يكمن في ذلك وحده ، بل يتجلَّى في قدرتها على إثارة القارئ وشدِّه للغوص في عالمها ، والاندماج مع شخصياتها وأحداثها بشكل عميق ، وهذا ما جعلنا نعيش تناقضات الملا “إبراهيم” والملا “محمود” ، وكأننا قد مررنا بهذه الأحداث ، أو عايشنا مثل هذه الشخصيات من قبل ، سواء في جدالات جمشيد وهوشينكار ، أو في العبثية الممزوجة أحياناً بالحكمة في أحاديث النساء عموماً ، وأحاديث فتاة الليل “أسماء” على وجه الخصوص .

جاءت الرواية مؤكدةً على جملة من المبادئ التي تتبناها النخب المثقفة ، وكان أبرزها أن الانتماء لا يُقاس بالخرائط والحدود الجغرافية التي رسمتها أيدٍ بشرية ، كما حملت الرواية بين طياتها دروساً عميقة جعلتنا نُمعن النظر فيها بإجلال وحزن ، ومن تلك الدروس ما نحن بأمسِّ الحاجة إلى تصحيحه في واقعنا المعاصر ، كدرس العار الذي قيل فيه : ” لأن العار حين يطول يصبح مألوفاً ، وحين يصبح مألوفاً ، لا يعود عاراً ، بل عادة ” .

تدعو الرواية قراءها إلى الوقوف والتأمل والتفكُّر في عقيدة راسخة تقول : ” لأن الخرائط لا تموت والحدود لا تضعف ” ، كما تمتلك قدرة واضحة على التأثير، حتى في أولئك الذين يحملون وجهات نظر مغايرة لما تطرحه من حلول  في نقاشات الشخصيات ، ومثال ذلك ما يفكر به المؤمن مثلي بالنضال السلمي والسياسي أكثر من الكفاح المسلح ، إذ وجدت نفسي أتوقف طويلاً عند أحد الاقتباسات اللافتة : ” الخرائط تُرسم بالسكين ، لا بأصابع العاشقين ” ، لأُحدِّث نفسي ، وربما أتبنى – في ظروفٍ خاصة –  قناعةً بضرورة أن يجتمع النضال السلمي والمسلح معاً بين الحين والآخر .

مع الأسف الشديد نشهد تراجعاً ملحوظاً في معدلات القراءة وفقاً لما تشير إليه الإحصاءات ، وهذا ما يدفعنا إلى الدعوة المستمرة لتحويل مثل هذه الروايات إلى أعمال مسرحية أو سينمائية ، لتُمنح حياة أطول ، وتصل إلى جمهور أوسع ، وخصوصاً أولئك الذين تماهوا مع تكنولوجيا العصر ، ولم يعودوا يُقبلون على القراءة كما في السابق .

في الختام ، وكمنحازٍ بشكل عام إلى الرواية بوصفها أحد أهم الأشكال الأدبية ، فإن مثل هذه الأعمال هي التي تُعمِّق قناعاتنا وتثبتها أكثر فأكثر بما تحمله مثل هذه الأعمال من أبعاد فكرية وإنسانية ، وبما لها من أثر بالغ في الوجدان والثقافة ، وما تقدمه من نقاط تفوق للرواية في كل مناظرة أو حديث يتناول ما نفضل قراءته في ميادين الأدب وأروقته .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عصمت شاهين الدوسكي

 

آهٍ من الشَّوقِ، إن ضاقَتْ نَفْسي،

هَمَسْتُ لها: اصْبِري…

ففيكَ أَجْري، وفيكَ نَفَسي.

وَلَعي فيكِ نَداءٌ لا يَهْدَأُ،

ومَنْعُكِ لَسْعَةُ نارٍ

تَسْكُنُ همسي.

عِشْقٌ يَتَرَقْرَقُ ما بينَ صَباحي وأَمْسي،

فَلا تُمِلِّي عَلَيَّ المَسافاتِ،

هي ظِلِّي… هي كل أُنْسي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يا مَلِكَةً تَسْكُنُ مِحْرابَ وُجودي،

يا نَبْضاً يَجْري في عُروقي

دونَ خارِطةٍ أو حُدودِ،

أَنْتِ الحاضِرَةُ في غيابِكِ،

والغائِبَةُ في حُضورِكِ،

أَنْتِ سِرُّ رُدودي،

كُلُّ أَشْتاتي تَذُوبُ فيكِ

لَهْفَةً تُخالفُ قُيودي…

صَباحاتُكِ…

ماهين شيخاني

كان الشتاء في ذروته، والبلدة تلفها غيوم سوداء أثقلتها أمطار متواصلة منذ الفجر. في ذلك الصباح، وبينما يراقب طلابه يحلّون مسائل الرياضيات، اقترب منه شاب في مقتبل العمر، ملامحه مضطربة وصوته بالكاد يخرج:

– أستاذ… عندي طلب شخصي.

رفع الأستاذ رأسه، وقد اعتاد على المفاجآت في هذه البلاد:

– تفضل يا بني.

– خلاف عائلي، لا شأن له…

عبدالجابر حبيب

لم يكن ذلك الوقت للشغف.

أنا من صنعته لك، قد اقتبسته من عقارب العمر.

استيقظت على قرع طبول الشمس، تطرق بعجلة قطرات الندى بملهى قلبي.

راقصات صماء، مبهرون.

نهضت على جلجلة تئن روحي.

عانقت قنبلة الشوق، ربما تزغرد على جبهة قدري.

شردت بصقيعك البارد.

امتطيت حضارة الفجر، لجأت إلى إكليل قبر ملغوم.

عانقت ركام وجعي، حفرت قبر قديس.

امتطيت معجزة.

راقصت القبور بسهرة ساكرة،…

أحمد عبدالقادر محمود

لم يكن نداءً للسفرٍ

عندما طرقتِ الأبواب الصور

كانت أصواتهم في البدء بشر

قالوا هيا إلى المغانم

لكم فيها كل النذر

لقد نصر الله القائد الغانم

في معاركه على الكفر

أمر سيادته بتقديم القرابين

حمداً وشكراً وتقرباً للمقتدر

أُخذنا رجالاً ونساءً وأطفالاً

إلى حيث لا ندري

أخيراً أُريد بنا أم شر

أُوقفونا في طوابير

على حافَّاتِ الحفر

ومن خلفنا وقفت تلك الصور

صاح مجيدهم

هيا أعطوهم الحصص من الصرر

فانهالت…