ماهين شيخاني
كان الشتاء في ذروته، والبلدة تلفها غيوم سوداء أثقلتها أمطار متواصلة منذ الفجر. في ذلك الصباح، وبينما يراقب طلابه يحلّون مسائل الرياضيات، اقترب منه شاب في مقتبل العمر، ملامحه مضطربة وصوته بالكاد يخرج:
– أستاذ… عندي طلب شخصي.
رفع الأستاذ رأسه، وقد اعتاد على المفاجآت في هذه البلاد:
– تفضل يا بني.
– خلاف عائلي، لا شأن له بالسياسة… نحتاجك لتكون وسيط خير.
– إذا كان الأمر كذلك، فأنا حاضر.
لم يسأل المزيد. ربما لأن العيون المرتبكة تقول ما لا تقدر الكلمات عليه.
بعد أيام، كان الوعد قد حان. السماء رمادية، والريح تعوي في الطرقات مثل كلب جائع. التقى الأستاذ بالشاب عند مدخل السوق، ثم اتجها إلى الموقف. ركبا الحافلة الصفراء التي تشق الطريق نحو مدينة أخرى، كأنها تعبر إلى عالم موازٍ.
على بعد نصف ساعة من البلدة، نادى الشاب السائق:
– لو سمحت، قف عند مفرق القرية.
ترجلا، ومضيا في طريق موحل يشق الحقول الغارقة بالماء. على بعد خطوات، ظهر نهر صغير، لكن أمطاره الأخيرة جعلته يكبر ويتحول إلى سيل جارف. وقف الأستاذ مشدوهًا:
– كيف نعبر؟ الطريق مسدود.
ابتسم الشاب بثقة مصطنعة:
– هناك موضع ضيق، نقدر على القفز منه.
قفز الشاب أولاً، ثم ألقى للأستاذ مظلته، وقال له:
– توكل على الله.
قفز الأستاذ، وقلبه يضرب كتلك القطرات التي تنهال فوق رأسه، لكنه هبط بسلام.
واصل الاثنان السير حتى وصلا إلى بيتٍ طينيّ متواضع، بلا باب خشبي، فقط ستارة ممزقة تحجب الداخل. تقدما بخطى مترددة، فانبثق من الداخل صوتٌ أجشّ:
– تفضلوا… الباب مفتوح.
دخل الأستاذ، وإذا بالرجل يجلس في صدر الغرفة، بملامحٍ حادة وعينين ملتهبتين. كان يلف جسده بمعطف عسكري قديم، وعلى الأرض علبة تبغ وبضع سجائر نصف ملتفة. نهض الشاب ليعرّفه بأبيه، لكن الرجل لوّح بيده مقاطعًا:
– أعرف لماذا جئت. لن تغيّر شيئًا.
جلس الأستاذ، متسلحًا بصبره:
– يا عم، الحياة قصيرة، وأولادك لهم حق، مثلك تمامًا. هم بحاجة إلى بيت، إلى قطعة أرض، إلى بعض الأمان. وأنت أخذت نصيبك.
انفجر الرجل ضاحكًا، ثم مال بجسده إلى الأمام، وقال بكلماتٍ مسمومة:
– تطلب مني أن أتنازل؟ وأين حقي أنا؟ من سيعوضني عن شبابي؟ عن جسدي الذي صار رمادًا؟ أنتم تريدون أن تسرقوا حتى ما تبقى لي من لذة؟!
شعر الأستاذ بصفعة غير مرئية. كان الحوار قد انزلق فجأة إلى وحلٍ آخر، وحلٍ من الغرائز والشراهة التي لا تشبع.
نهض بغضب، وقال للشاب:
– لا جدوى يا بني. عقله أقسى من هذه الريح.
مد يده لمصافحة الرجل، لكن الأخير تجاهله تمامًا. خرج بخطوات سريعة، تتعثر فوق الطين.
في الخارج، كانت السماء قد أفرغت كل حقدها دفعة واحدة: برق يشق الأفق، رعد يهز القلوب، وبَرَد ينهمر مثل رصاص يثقب الأرض. لحق به الشاب، وصديقه من القرية عرض مرافقتهما إلى الطريق العام.
عند النهر، كان السيل قد صار وحشًا هائجًا، يزمجر بفم مفتوح. قفز الشاب أولاً، ثم التفت إلى الأستاذ:
– ألقِ لي المظلة… وسأساعدك بعدها.
ألقى المظلة، وحين همّ بالقفز، انزلقت قدماه على حافة الطين، ورآه الشاب للحظة يتأرجح بين السماء والماء، قبل أن يبتلعه النهر كغول لا يشبع.
صرخ الشاب، ركض على الضفة، لكن التيار كان أسرع من كل نداء. ظل يبحث حتى وجد المظلة عالقة بين الأغصان، مكسورة، بلا صاحب.
في اليوم التالي، كان الخبر في زاوية صغيرة من الجريدة:
“معلم يفقد حياته أثناء محاولة الصلح بين أب وابنه في إحدى قرى الشمال.”
لكن أحدًا لم يكتب عن النهر الذي ابتلع ليس جسدًا فحسب، بل حلماً صغيرًا بالسلام.