النكتة الخائنة

فواز عبدي

بعد غياب طويل عدتُ إلى القرية، تلك التي شهدت أول صرخة بكاء وأول شهقة وأول ابتسامة. هناك حيث خطوت خطوتي الأولى المترنحة فوق تراب ناعم لا يشبه تراب المدن. القرية التي كانت تنام في سرير مربوط بين تلتين تمرجحه يد الريح على إيقاع غناء الجنادب وأناشيد الضفادع..

للهواء هناك طعم الغناء لا نكهة الصفير، والليل لا يزحف، بل يتمدد كقط عجوز تحت القصب على ضفاف النهر…

 كل شيء كان كما تركته: كفرى حمو Kevrê Hemo مازال على يمين الطريق؛ تلك الصخرة التي اعتدت أن أعلوها لأشعر بأني صرت عملاقاً.. أو أجلس عليها حيناً لتمتص تعبي وشغبي.. وحيناً أنصب فخاخي في ظلها لصيد الجكجكان..

تركتور حسينو مازال يركن على البيادر الجنوبية للقرية، نتناوب في تمثيل دور السائق نهاراً، وفي الليل يفقد أعضاءه تحت جنح الظلام وكأنه تعرض لغزوة..

الينابيع تحن إلى النهر، تسير لترتمي في حضنه..

رأيت الأصدقاء يقبلون واحداً تلو الآخر، من الأزقة، من الحقول، من بيوت عتيقة وكأن أحداً لم يغادر تلك البيوت الطينية.. وصرنا ننكش الذاكرة ونضحك.

نضحك، لا لشيء إلا لأن الهواء كان خفيفاً، والمساء قد نام باكرا فوق رؤوسنا. الأحاديث تتقافز من حاضرٍ ضجر إلى ماضٍ لزج بالمطر والمراعي والنطحة الأولى من كبش مشاغب. كنا كباراً بأجساد مجعدة وطفولتنا تتقافز بيننا بمرح، تحلم أن ترتدي شورتاً وتلعق البوظة التي كانت تعادل فرحة العرس ونحن صغار.

ضحكنا حتى تحولت الضحكة إلى مخلوق هلامي، يطير فوق رؤوسنا ويركل الغيمات… كل طرفة نرويها كانت تُنجب واحدة أخرى، حتى ولدت تلك النكتة “المحرّمة” عن الزعيم.

في تلك اللحظة التي خرجت فيها النكتة، شعرتُ بوخزة… لا في قلبي، بل في خاصرتي، كأن أحدهم ضغط على “زر الخطر”. التفتُّ، فإذا بعين تراقبنا من بعيد، عين ليست كالعين البشرية؛ كان نصفها يشبه كاميرا، ونصفها الآخر يشبه عين أمي حين أمسكتني أسرق السُكّر من صندوقها الأثري.

ضحكتُ مجدداً كي لا تشمّ الرهبة رائحة الخوف، ولكن الزعيم كان هناك، جالساً القرفصاء بجوار أخيه الأزعر في ظل بيت الجيران. لم يكن يرتدي بدلته العسكرية هذه المرة، بل كان يلبس بيجاما خضراء برسوم دجاج أبو عمشة. ومع ذلك، كان مرعباً.

أشار إلينا المراقب الماكر – إصبعه طويل كعود قصب – فخرج من الأرض رجال الحرس كأنهم فُقاعات انفجرت من باطن التراب. أمسكوا بنا واحداً تلو الآخر، كأننا بيض مسلوق ينتظر التقشير.

اثنان فقط نجوَا. لماذا؟ لأنهما لم يضحكا. لا، لم يرويا شيئاً. كانا صامتين مثل الصبّار. أحدهما يعاني من التهاب في الفك، والآخر لا يفهم النكت أصلاً.

أما أنا، فشعرتُ أن الموت يقترب، لا كضيف ثقيل، بل كشيء نسي أن يأتي في الوقت المناسب. حاولت أن أجد خطة للهروب، لكن أفكاري كانت تتقافز بين الحكايات مثل عصفور وقع في فخ طفل عابث.

قبل أن أصل إلى الزعيم، الذي تظاهر بأنه لا يرى شيئاً وهو ينكش أنفه، تملصت من أيدي الحرس وركضت. لم أركض على قدميّ، بل شعرت أنني أسبح في الهواء، أطير بين الطرائف المهجورة والذكريات المغبرة… هربت من الحلم؛ استيقظت.

كان الحلم يلهث معي. وعلى الوسادة، وجدت ريشة.

لا أدري من أين جاءت.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

نصار يحيى

أوقفني كتاب يحمل عنوان: الشيخ والمريد. للباحث المغربي الدكتور عبدالله حمودي موضوع دراسته عن الطرق الصوفية المنتشرة بكثرة في المجتمع المغربي.

ينطلقَ من سؤال جوهري، كيف يمكننا أن نفسر: حالة أغلبية شعبية خاضعة للحرمان، تبدو راضية رغم ذلك؟

حاولَ الاجابة من خلال الاحالة الى عقلية العبيد ..”عقلية الإنسان المقهور”..العبد يسعى بشكل دائم للتقرب من السلطة، ليشعرَ…

ضحى عبد الرؤوف المل

تسود الألوان الدافئة في لوحة الفنان جبران طرزي خصوصاً درجات الأحمر، الزهري، البرتقالي، والذهبي، ما يضفي على بصر المتلقي إحساساً بالحيوية والدفء والأنوثة والبهجة معاً. تدرّج الألوان داخل الأشكال يخلق تأثيراً ثلاثي الأبعاد، يجعل كل وحدة تبدو وكأنها تخرج من السطح أو تغوص فيه. إذ يعتمد طرزي في هذه اللوحة على تكوينات…

ماجد ع محمد

قد لا يُستحسن عند الحديث عن أيّ قطعة فنية أو أيّ عملٍ أدبي البدء بطرح التساؤلات، ولكن من قال إن المداخل التقليدية على الدوام هي الجذابة والقادرة على إغوائنا؟ فيما المخالِف للسائد سيغدو متروكاً في القَعَر يُساجِل المهملات، ومن قال إن اللامألوف يستدعي النفور الدائم؟ إذن فمن قاعدة المغايرة جاء طرح السؤال التالي…

إبراهيم اليوسف

تأتي المجموعة الشعرية “على هامش العزلة” للشاعرة هيڤين العلي- الصادر عن دار الأيقونة، قامشلو، 2025، في 107 صفحات- بوصفه ليس فقط باكورة أدبية، بل فعل نشوء حقيقي لذاتٍ تكتب من داخل العزلة لا عنها، ذاتٍ لا تستعير الحزن من خارجه، بل تسكبه من عمق ما عايشته. القصيدة هنا ليست أداة،…