يسرى زبير
لم أعرف يومًا كم كان عمر أمي، ولا حتى جدتي.
وحتى أنا، لم يخطر ببالي يومًا أن أسألها عن عمرها.
كانت تسرد علينا حكايات من الماضي، من الخيال، ومن الفلكلور الكوردي.
كانت تتحدث معنا عن القومية الكوردية، وكان صوتها يتناغم مع الأشرطة المسجلة لفنانين كورد تعشقهم…
كانت تحب كل أغنية تحمل نغمات عن الوطن والتاريخ.
كانت تتنهد وهي تستمع للفنان محمد شيخو، وتكرر أن هذا الكاسيت تم تسجيله في بيتنا بهلالية.
قالت إن محمد شيخو كان صديق عمي علي، عندما كان شابًا، قبل أن يتجه إلى نصيبين.
وكانت تصرخ: هذا صوت عمك سلو، زوج عمتك ألماظ، هو الذي يردّد مع الفنان! وهذا صوت عمك الآخر!
نعم، أتذكر حينما كنت في الخامسة من عمري، عندما دخل عمي حسين، ابن عم والدي، وكان يبكي.
أخبر أمي بشيء، فبكت معه.
أتذكر جمود أمي ودموعها، ودموع رجل لأول مرة أراها.
لم أنسَ تلك اللحظة، رغم أنني لم أفهم مغزاها وقتها.
اقتربت من أمي التي كانت واقفة على الباب وسألتها:
– لماذا تبكين، أمي؟
أجابت بصوت يخنقه الألم:
– لقد مات البارزاني.
قلت بدهشة:
– من هو البارزاني؟
قالت:
– إنه أبونا… أبو الكورد.”
استغربت وقلت:
_ لكنه ليس أبي، أبي اسمه زبير، وليس بارزاني!
ابتسمت بألم وقالت:
– أعرف، أبوكِ هو والدكِ، ووالد إخوتك، أما بارزاني، فهو والد جميع الكورد.
لم أفهم حينها، وسألتها:
– هل هو أيضًا والد صديقتي المسيحية نينوى؟ وريما التي تسكن بجوارنا؟
أجابتني بكدر:
– غدًا ستكبرين وتفهمين من هو البارزاني…
وأتذكر حين كانت مجموعة من الفتيات يزرن أمي.
في شباك بيتنا، المحفور في الجدران الطينية، كانت هناك حقيبة كبيرة.
كانت أمي تضع فيها كل ما هو سري وثمين.
عندما تأتي إحدى الفتيات العزيزات على قلبها، كانت تفتح الحقيبة، وتريهن صورًا لا تزال عالقة في ذاكرتي:
صورة فتاة يداها مقيدتان إلى الخلف، وخلفها رجلان.
وصورة أخرى لنفس الفتاة، ورقبتها داخل حبل المشنقة، وجسدها النحيف يتدلّى.
قالت أمي إنها الشهيدة (ليلى قاسم).
كنت أرى الفتيات يتوسلن إليها ليأخذن الصور، لكن أمي كانت ترفض.
وبعد مغادرتهن، كانت تحذرني من الحديث عما يدور بينهن.
أتذكر أمي حين كنت صغيرة، وهي تغني بصوت خافت:
جاء عيد نوروز، نوروز كاوا،
وهي تمشط شعري وتلبسني ملابس العيد.
كانت ملابسي مصنوعة من قماش مزخرف بالخيوط الملونة والورود الجميلة، ومعلّقة على الجدران.
سألتها:
– ما هو عيد نوروز، أمي؟ هل سنذهب لجمع السكاكر؟”
فردت بحنان:
– لا، يا ابنتي، إنه ليس عيد السكاكر. إنه عيد الكورد.
– وما الذي سنفعله فيه؟
– سنذهب إلى ساحة قرب المطار، سنتنزه ونأكل، إنه عيدنا وحدنا.
فهمت أن صديقاتي المسيحيات لن يشاركننا، لكن جيهان وشيرين، جاراتنا الكورديات، كنّ دائمًا معنا.
كان الجميع فرحين، وأمي تحمل طشتًا كبيرًا من الألمنيوم فيه أكلة البلوعي الكوردية.
مشينا أكثر من نصف ساعة، وهناك، جلسنا في حفر محفورة في الأرض، مع عائلات أخرى.
أتذكر رجلًا كان يتنقل بين الحفر، يحمل كيسًا كبيرًا فيه طنبور.
كان يعزف قليلًا، ثم يرحل ليعزف في حفرة أخرى.
سألت أمي عنه حين كبرت، من كان ذلك الرجل؟
فقالت: كان الفنان (عادل حزني).
أتذكر تلك اللحظات جيدًا، لكن لا أتذكر عمري وقتها، ولا كم كان عمر أمي.
لكنني أتذكر مواقفها البطولية من أجل قضيتها.
أتذكر يوم أجرت عملية ديسك في ظهرها، في مشفى الأسد الجامعي في دمشق.
وفي زيارتها الأولى بعد العملية لمراجعة الطبيب للتأكد من صحتها بعد رجوعها من الشام،
عند عودتها، فتحتُ لها الباب، وكانت متعبة جدًا.
تمشي بصعوبة، ترتدي زيّها الكوردي، ملفوفًا بالشوحية.
دخلت الغرفة وقالت:
أغلقوا الأبواب والنوافذ.
تفاجأنا لطلبها، ولكن فعلنا ذلك، وهي تفك الشوحية، فإذا بأوراق كثيرة تسقط من ملابسها كنزول المطر…
– ما هذا يا أمي؟
قالت:
– إنها بيانات الحزب الكوردي.
صُدمت…
– لكن ظهرك مجروح، والعملية ما زالت حديثة!
قالت:
– جلست في الباص لأكثر من 16 ساعة، لم أنزل حتى في محطات الاستراحة…
كل هذا من أجل الكوردايتي… العالم يقدمون أرواحهم، وأنا لم أقدم شيئًا بعد.
بقيت أمي تتألم بوجع ظهرها حتى وفاتها، ولم أسألها يومًا كم كان عمرها.
مواقفها كانت أكبر من أي رقم.
أتذكر نوروز 21 آذار 1990.
كان والدي مسؤول فرقة (چيان)، وأنا وأخي ماجد أعضاء فيها.
كنت عريفة الحفل ومشاركة في بطولة مسرحية (نوهات) وماجد كان رئيس الدبكة ومشاركًا أيضًا معي في المسرحية.
في الصباح الباكر، بينما أرتب البرنامج مع صديقتي دلشا رفعت داري،
جاء رجال بزي مدني وانتزعوا الأوراق من يدي بالقوة.
ثم رأيتهم يقيّدون والدي ويأخذونه معهم في سيارتهم الجيب العسكري.
عندما حاول الفرار، صفعوه أمامي وأخذوه.
انكسر شيء وقتها في داخلي وأنا واقفة في ساحة نوروز.
بكيتُ كثيرًا وجلست، وأخي ماجد جلس بجانبي حزينًا.
أمي، كالمدافعة الشرسة، همت بنا للصعود إلى المسرح وقالت:
ما هذا؟ قوموا! اصعدوا المسرح، فرّحوا والدكم.
إنه اليوم الوحيد الذي نستطيع إحياء فلكلورنا بحرية، البرنامج ليس ملكًا لهم.”
– ولكنهم أخذوه مني يا أمي، ماذا أقدم؟
– أعرفك قوية وتستطيعين مواجهة الجمهور وتكتبين الشعر، قولي ما عندك.
هذا نوروز كاوا! هل نكسر؟
– لقد أخذوا أبي وضربوه أمام عيني!
– لا! والدكم بخير.
دعونا نثبت لهم أننا أبناء كاوا الحداد!
ثم زغردت، وأصعدتنا للمسرح.
قالوا لوالدي لاحقًا:
– ابنتك تقدّم على المسرح!
– وأنت تقول إنها ليست ابنتك!”
قال والدي:
كم أفرحني قولهم عندما قالوا لي هذا…
حينها عرفت بأن أولادي لا ينكسرون، وأن برنامج الفرقة مستمر.
في عام 1989، ذهبنا في رحلة إلى قرية “بركفري” مع فرقة چيان.
كانت معنا أمي، وأم خوندكار، وأم الأستاذ فارس، وأم ليلى.
نعم، كنّ من الحاضنات للفرقة والحزب.
في الهلاّلية، كانت أكثر التدريبات تقريبًا للفرقة في بيوتهن،
وأيضًا كنّ من الحاضنات للندوات السياسية والاجتماعات الحزبية،
لذا كان وجودهن معنا أمرًا طبيعيًا.
ذهبنا للقرية وتجمع أهلها حولنا، وبادرنا بتقديم برنامجنا، ولكننا لم نجد النسوة الأربع اللواتي كنّ معنا.
أين أمي والبقية…؟
غابوا عنا أكثر من ساعتين، وعندما سألناهم، قالوا إنهم كانوا يزورون نساء القرية.
لاحقًا، عرفت من أم خوندكار، عندما أجريتُ معها لقاءً مباشرًا على قناة Peyv TV،
أنهم كانوا يوزعون مناشير وبيانات الحزب في بيوت القرية.
كنّ يخاطرن بحياتهن دون أن يخبرونا.
أمي لم تحدّثنا يومًا عن هذه اللحظات.
لم تخبرنا بأنهن كنّ يحملن كل هذا الخوف ويخبئنه في أفئدتهن على طول الطريق،
لو كان هناك تفتيش، لكانت نهاية حياتهن وحياتنا على أيدي مجرمي حزب البعث في ظل نظام حافظ الأسد…
نعم، خبأت أمي مع صديقاتها كل هذا في قلبها، حتى رحلت.
وفي نفس العام، كانت لدينا رحلة إلى “كري موزا”.
كان هناك دائمًا رحلات للطبيعة قبل عيد نوروز بأسبوع،
حتى نتمكن من التدريب ليوم نوروز في الطبيعة، وليس في الغرفة الضيقة،
بالمشاركة مع فرقة (شورش) من الحسكة، بإدارة فرحان أبو سيبان وعدنان.
استيقظنا صباح يوم الجمعة على صوت طرقات الباب…
نعم، كانت فرقة شورش قد وصلت إلى بيتنا.
كانت ساحة الحوش عندنا واسعة، والجو ربيعي، واجتمع أعضاء فرقة چيان أيضًا.
لم يكونوا قد فطروا بعد.
أتذكر حينها كان لدينا دست، طنجرة كبيرة من الألمنيوم،
وقد أحضرت أمي ثلاث قطع كبيرة من الحجارة، ووضعت الدست فوقها،
وجمعت حولها قطعًا من الخشب، وأشعلت النار تحتها،
وعبأت الدست بالماء، وعند الغليان جاءت بكل ما تملك من العدس ووضعته في الطنجرة، وأعدت لهم شوربة العدس الشهية.
أتذكر أن فتاة من فرقة شورش قالت:
أنا لا أحب العدس.
فذهب والدي واشترى صفتين من البيض من دكان جارنا، بعدما أيقظهم من النوم.
وذهب فرحان وعدنان يدقان أبواب الجيران، يطلبان الخبز.
نعم، تفاجأنا وقتها، ونحن نضحك، بكمية الخبز في أيديهم، وهم يقولون:
نعم للكوردايتي… والجيرة.
أمي أعدت الفطور للجميع، بكل حب وصبر،
دون أن تتذمر يومًا من الضيوف أو من أعضاء الفرقة،
الذين في أغلب الأوقات كانوا متجمعين في بيتنا.
كانت تخدمهم بمحبة كأولادها، لأن أمي كانت تحب قضيتها أكثر من عمرها… وأكثر من حياتها.
أتذكر حينما كانت تأتي أمي بقوت الشتاء المخزن لديها من العدس والبرغل ومربى البندورة والمكدوس والمكسود والمربيات، وتأخذ من كل شيء قسمًا وتضعه جانبًا، متفقة مع صديقتها في النضال أم خوندكار، التي هي أيضًا مع بعض النسوة يقسمن قوتهم الشتوي، ووضعوه في طشت كبير، وحملوه فوق رؤوسهم، وتوجهوا إلى طلعة الهلالية.
وعندما سألتهم: لمن تأخذون هذا؟
أخبرونا بأنهم سيأخذونه لعائلات الطلبة.
– من هم الطلبة؟ هل هم طلاب المدارس يا أمي؟
– لا يا ابنتي، إنهم نازحون من كوردستان تركيا، فهم من المحكومين عليهم من قبل الحكومة التركية.
إنهم موجودون في طلعة الهلالية، وهناك من تبرع لهم ببيوتهم التي كانوا يستأجرونها.
فهم من أبنائنا الكورد المناضلين.
كانوا يذهبن إليهم ويلبّين كل احتياجاتهم من أجل الكوردايتي.
نعم لأمي مواقف كثيرة من أجل قضيتها، فلا تكفي كتابة الروايات في سردها.
عمرها كان في خدمة الإنسانية.
ولم تذكر لنا يوما كم تبلغ من العمر.
أمي، التي رحلت في 23.1.2019، رحلت وتركتني ممزقة في تلك الليلة السوداء.
عذاباتها في الشهور السبعة الأخيرة كانت قاسية.
رافقتها أحيانًا إلى مشفى قامشلو لغسل الكلى.
وقعت ذات مرة في بيتي، وانكسر حوضها،
وكان من المفترض ألا تتحرك لأسبوع، لكنها كانت مجبرة على الذهاب لغسل الكلى مرتين أسبوعيًا.
كانت تنام وهي جالسة، من شدة الألم.
تقول:
يا ربي، لو أني أملك فقط نصف متر أرض لأُدفن فيها وأرتاح!
أمي… أيقونة حبي… وحياتي.
لكنني لم أسألكِ يومًا عن عمرك…
مواقفكِ كانت تكفي لتخبرني كم كنتِ عظيمة.