بهرين أوسي
تقف الأديبة الشاعرة الكردية مزكين حسكو في فضاء الشعر الكردي الحديث، شاهدة على قوة الكلمة في مواجهة تشتت الجغرافيا. جبل شامخ كآرارات وجودي لم تنل منه رياح التغيير القسرية.
شاعرة كرّست قلمها لرسم جماليات الهوية الكردية من منفى اختاره القدر، فنسجت قصائدها بلغة أمّها كوطن بديل يحمل عبق تلال كردستان ووجعها. كما تقول في إحدى لوحاتها الشعرية:
أيتها الوردة الحزينة.. كم أخجل من دموعك! هل تعلمين أنكِ تذبلين في قلبي قبل البستان؟
سيرة حافلة بالمعنى تفيض جمالاً وحباً وكردايتي. وُلدت مزكين حسكو عام 1973 في قرية الشلهومية بمنطقة تربة سبيه (كردستان سوريا)، حيث استقى شعرها أولى أنفاسه من طبيعة كردستان الساحرة، وحفرت في ذاكرتها تفاصيل بساطة الحياة وعمق الحب للمكان والأشخاص، أخاديدَ عميقة نزفت شعراً وجمالاً. هاجرت إلى ألمانيا مطلع تسعينيات القرن الماضي، لكن الغربة لم تنزع منها هويتها، بل زادتها تمسكاً بلغتها الكردية التي تكتب بها حصرياً، والتي زرعتها بعناية في أبنائها، رافضةً أن يعيشوا بلا هوية حقيقية، بلا وطن سوى وطن المنفى، بلا جذور وتاريخ. فأرضعتهم كورديتهم مع حليبها قائلة:
الكردية هي ذاكرتي التي لا تغرق.
حيث يصبح الألم زهرة، ويصبح الصعب نهراً يُستقى منه الأمل، وتصبح القصيدة لغة المكان والزمان. تمتلك مزكين حسكو بصمة فريدة في المشهد الثقافي الكردي، حيث تكتب بلغة معبّرة بسيطة عميقة، لغة الآباء والأمهات، الأجداد والجدات، لغة تتراقص في ذاكرة كل كردي كفراشات ملوّنة بألوان علم كردستان. تحوّل الطبيعة إلى شاهد، وتحوّل عناصرها (الغزلان، الرياحين، النجوم) إلى رموزٍ تحمل هموم الإنسان الكردي، كما في ديوانها ملاك الفضة الساحرة (2012) حيث تصف:
(غزالةٌ تتهادى بين الياسمين.. كأنها قصيدةٌ تبحث عن وطنٍ يقرأها.)
تخلق حواراتٍ درامية بين الكائنات (كالوردة والبستاني)، وتحوّل الصمت إلى لغة بليغة تعبّر عمّا لا يُقال. إنها الكردية التي تصنع من الصمت مواسم فضة وذهب.
تجمع مزكين في نصوصها بين السواد (معاناة الشعب الكردي) والبياض (إشراقات الأمل)، كقصيدتها الشهيرة ملائكة الأرض التي ترسم:
(أطفالٌ يبنون قصوراً من أشلاء الحرب.. ويعلقون على جدران الدمار قلوباً من قوس قزح.)
نتاجها الأدبي فيضٌ من جمال:
- أحرف الحب (شعر) 2007
- أفق مليئة بعبق العندكو (شعر) 2008
- بين أنفاس الآلام (شعر) 2010
- على أطلال وطن جريح أنزف (شعر) 2012
- قلادة من الزنابق (شعر كلاسيكي) 2013
- نحو مواسم العشق (شعر) 2015
- الدروب المخضرة (شعر) 2019
- من جعبة الحياة (آراء وبعض من السيرة وتجارب الحياة) 2020
- نقش روح الصمت (شعر) 2021
- من قاموس الشغف (آراء وأفكار) 2023
وصدر للشاعرة والكاتبة مزكين حسكو مجموعتان شعريتان باللغة الكردية:
ملاك الفضة الساحرة (طبعة ثانية، شعر 2023)
البراعم الثملة بالضوء (شعر 2023)
ولها عدة أعمال أدبية غير منشورة، منها:
- سلّة السكر – قصائد للأطفال
- أين ذهب الدب القطبي – قصة للأطفال مترجمة من الألمانية
- السلمندر الأسود – رواية
- باقة من القصائد الجديدة
- جميع مقالاتي
أما قصيدتها ملائكة الأرض فقد نالت تصنيفاً عالمياً كواحدة من أروع نصوص “الليرك” الحديث.
تكريماتٌ تليق بعطائها:
جائزة تيريج الأدبية (2022): كأول شاعرة كردية تنالها، تقديراً لإثرائها المكتبة الكردية.
تكريم مكتبة فرانكفورت الدولية: اختيار ملائكة الأرض ضمن أفضل النصوص الشعرية المعاصرة.
كلماتها تبني وطناً رغم بعدها الفيزيائي عن كردستان. كان لنا شرف استقبال نتاجها في قامشلو – مكتب الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا، حيث كانت تتابع حفل توقيع نتاجها كأم تحتفل بوصول فلذات كبدها إلى أرض الوطن. وكان لي نصيب خاص من نتاجها ممهوراً بختم الحب منها.
تبقى مزكين حسكو قريبة منا ومن وطنها وأهلها بقصائدها التي تذكّرنا بأن الهوية تُحمَل في الروح لا في الحدود. كما يصفها الناقد إبراهيم محمود في كتابه سماء على أرضها:
(شاعرةٌ تحوّل المنفى إلى مرصدٍ ترى منه كردستان أكثر وضوحاً.. كلماتها ليست حروفاً على ورق، بل جذورٌ تمتد تحت المحيطات.)
مزكين حسكو، النجمة التي لا تغفو، تشع رغم الألم، وتعطي رغم البعد، وترفض أن تكون مجرد رقم ضائع بين مليارات الأرقام.