الرأس الصغير

فواز عبدي

الليل شتائي، الثلج إكليل عرس منقط بالسواد على جبين الأرض، المهجع خلية نحل أدخل فيها طفل مشاكس عصاً، وراح يعبث بها.. فتية في مقتبل العمر؛ تركوا خلفهم أحلام طفولتهم المسروقة ومغامرات المراهقة.. تعلو أصواتهم وضحكاتهم غير عابئين بما يدور حولهم، يريدون الانتقام من الزمن الذي يأخذ ربيع أعمارهم، ويعبث بهم على هواه. جدران المهجع تستمع إلى الشتائم والكلمات المتمردة على حدود الأدب؛ المنطلقة من أفواههم كما تستمع عاشقة إلى همسات حبيبها في ليلة صيف قروية.

في الزاوية القصية من المهجع، الزاوية المنسية المتناسية، تكوّم (الرأس الصغير) منفصلاً عن جسم المهجع طائراً وراء بعض الأحلام التي تأبى مفارقته. و(الرأس الصغير) اسمٌ أطلقه عليه ضابط تعلو كتفيه نجوم.. وقتذاك دقّت ضحكات مَنْ حوله طبولاً في أذنيه، ومنذ ذلك اليوم بقي اسمه (الرأس الصغير) حتى نسي اسمه الحقيقي..

كان ذلك منذ قرون، كان ذلك غداً.

تكوّم ككمشة ثياب مجعلكة رمتها أمه في زاوية البيت. ارتسم أمام عينيه خيال حبيبته التي غادرها، تلك الطفلة التي شاركته مقاعد الدراسة في مدرسة القرية، حين كانت تأخذ منه كراس الرسم وترسم له ما يطلبه المعلم، وفي الصفحة الأخرى ترسم له وردة أو منظراً طبيعياً، لأنه لم يكن –وإلى الآن- يجيد الرسم، بينما يكتب لها موضوع إنشاء..

  • من أين تأتي بهذه الأفكار يا شيطان!!
  • أستمدها من رسومك يا شيطانة!
  • من رسومي؟! لا تسخر مني يا ملعون.. إنها مجرد خربشات..
  • بل هي أكبر من أفكاري.. وأقسم على ذلك بعينيك..

وتخفض طرفَها خجلةً، تخفي ابتسامة تشع من القلب.

حين تجر السماء زرقتها وتشعل قناديلها الخافتة معلنة قدوم الليل، كان يحمل ضوءاً ويبحث في بيوت القرية عن فراخ الدوري، يقف طويلاً مقابل بابها لعله يحظى بلقاء.

يوم استلم هذه البزّة، استقبله ضابط ذو شوارب كثيفة ملصقة على شفته العليا متدلية على السفلى، استطالت من الجانبين كجناحي نسر.. آه، لقد تحول الآن إلى فرخ دوري لم ينبت له ريش بين مخالب هذا النسر الذي يحمل صولجاناً.. وصولجانه ليس من تلك الصولجانات المرصعة بالماس أو الذهب والفضة.. بل هو غصن زيتونة قطعه يوم عيد الشجرة يهوي به على الأرجل المرفوعة.

مساء ذلك اليوم حمل الضابط «صولجانه» واقفاً أمام الصف، حلَّ صمت كصمت القبور، علا صوته الخشن مخترقاً الآذان: سأتلو عليكم الآن ما تيسر من سِفر التكوين.

صمت برهة يقرأ فيها تأثير كلماته في الوجوه البائسة المصفوفة.

-إن الرؤوس التي تفكر تتعب كثيراً –خرق الصمت مرة أخرى- وراحتكم هي راحتنا وإسعادكم غايتنا.. نحن –وكلما كان يتفوه بهذه الكلمة أو ضمير يدل عليه، يصمت لحظة ويرفع رأسه كديك رومي- نحن لا نريد رؤوساً تفكر، الأوامر تأتي من القيادة ونحن … لا عمل لنا سوى التنفيذ، فلا تتعبوا رؤوسكم بأشياء تافهة.. أليس كذلك أيها (الرأس الصغير)؟! ها ها ها.. (وعلت الضحكات مع قهقهته الساخرة) مهمتنا نحن.. هي بناء أجسادكم..

-«نريد نخلق منكم بني آدمين» مفهوم؟!

قالها ضابط آخر ليبرهن على أنه مازال موجوداً. نظر إليه الضابط (النسر) نظرة حادة من طرف عينه دون أن يلتفت إليه، فأسكته.

-مفهوووووم. انطلقت الكلمة من الأفواه المنتظمة في صفوف عاليةً، وعاد الصدى أقوى مرتداً من الجبل العاري.

استفاق (الرأس الصغير) على صوت صفعة على خده الأيسر ليرى يد الضابط ترتفع ليصفعه مرة أخرى..

-مفهوم أيها (الرأس الصغير)؟ ألا تملّ من الشرود؟!

ارتبك (الرأس الصغير) لأنه لم يكن قد سمع شيئاً مما قيل، أدار رأسه ليخفي دمعتين سقطتا عنوة من مقلتيه، وقال بصوت مخنوق مرتجف: مفهوم.

ولم يدرِ ما هو المفهوم.

أعاد الضابط أسطوانته مراراً، محدقاً في (الرأس الصغير) وختمها بقوله:

-أنت محروم «الليلة» من النوم أيها (الرأس الصغير)، مفهوم؟

-مفهوم. قالها (الرأس الصغير) ناظراً إلى الثلج الذي يغطي الأرض، مفكراً في الصقيع الذي يأتي به الليل، ويعلم أن ما يقال هنا ينفذ.

مرت هذه الخواطر كشريط سينمائي أمام عيني كمشة الثياب المجعلكة، عفواً أمام عيني (الرأس الصغير)، مدّ يده، أمسك القلم وراح يجمع خيوط قصة ينسجها. لحظتئذ، دقّت صافرة الإنذار، عفواً، صافرة الاجتماع. انفجرت الصافرة قنبلةً في أذنيه.. تناثرت القصة. أخذتها الريح وابتعدت..

وقتها، بكت السماء.. بكت.. بكت.. بكت على مدى سنوات الليل.. وحين أشرقت الشمس توقفت قليلاً، أحنت رأسها متأملة تربة حمراء؛ لم تقدر على احتضان جثة مرمية بالعراء، حولها انتشرت شظايا رأس صغير!!.

دمشق 1994

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف

تعد الشاعرة والأديبة مزكين حسكو واحدة من الأسماء التي اختارت طريقها عبر الإبداع، إذ جعلت من الكتابة الجمالية فعلاً يومياً لم يتوقف عند حدود الشعر وحده، بل تجاوزته إلى السرد بأنواعه. فهي شاعرة، وناقدة، ومترجمة، وكاتبة مقال، وصوت حاضر في السرد، حيث يتجاور عندها النص الشعري المكثف مع المقالة النقدية المضيئة، ومع مشروع الرواية…

في زمن تتسارع فيه الأزمات السياسية والاجتماعية في العالم العربي، يأتي كتاب “الصوت الندي: تأملات في الأداء والأغاني” للكاتب والشاعر الفلسطيني فراس حج محمد كملاذ ثقافي يعيد النظر في دور الغناء كأداة للحفاظ على الذاكرة الجماعية والتعبير عن الهوية الوطنية.

صدر الكتاب مؤخراً عن دار الرعاة للدراسات والنشر في رام الله ودار جسور ثقافية في عمّان،…

بدعوة من لجنة الأنشطة في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا، وبالتعاون مع ممثلية اتحاد كتاب كردستان، احتضنت قاعة كاريتاس اليوم١٧-٨-٢٥ في مدينة إيسن ندوة نقدية موسعة حول رواية “كريستال أفريقي” للروائي هيثم حسين.

أدار الندوة التي حضرها جمهور نخبوي من الكتاب والشعراء والصحفيين ومتابعي الأنشطة الثقافية
الناقد صبري رسول، وشارك فيها عدد من الأدباء والنقاد…

بهرين أوسي

تقف الأديبة الشاعرة الكردية مزكين حسكو في فضاء الشعر الكردي الحديث، شاهدة على قوة الكلمة في مواجهة تشتت الجغرافيا. جبل شامخ كآرارات وجودي لم تنل منه رياح التغيير القسرية.

شاعرة كرّست قلمها لرسم جماليات الهوية الكردية من منفى اختاره القدر، فنسجت قصائدها بلغة أمّها كوطن بديل يحمل عبق تلال كردستان ووجعها. كما تقول في إحدى…