خناف صالح و بث اشياء من الدهشة

غريب ملا زلال

أعي تماما ان الغوص في العمل التشكيلي كالغوص في اعمق المحيطات. قد تخرج لآلئ وجواهر ثمينة، وقد تعود خالي الوفاض، وقد تغرق ولا تعود. هذا ما احسست به وانا ابحث في اعمال الفنانة خناف صالح، وزاد هذا الاحساس وانا اقف امام عملها الذي انا بصدد قراءته.

احسست فعلا انني سأغوص في محيط، كل ما فيه يقول لك: قد تغرق. ولهذا ما عليك الا ان تأخذ كل حذرك وكل احتياطاتك حتى تنجح وتعود بزاد وفير.

بداية، حاولت ان اعنون العمل لاسهل غوصي، لكن تراجعت؛ فلست مع عنونة العمل لان العنونة تقزم العمل ان لم تقتله، خاصة التجريد منه، وقد تكون العنونة تدخلا في حقوق المتلقي ومصادرة جزء من افقه.

خناف هنا، في هذا العمل، تجعلك تحتار في رسم علاقة الدلالة مع عملية الوسم، مع اعترافي مسبقا بعدم محدودية هذه العلاقة. ولهذا لا بد ان تنعطف حلزونيا وفي كل الاتجاهات، وفقا بما يتناسب مع الحالة الجمالية للعمل بكونه آلية انتاج للسعي الى بث اشياء من الدهشة.

فهي تجري للوصول الى اثارة سلة من القيم الجمالية غير المنهكة بعد، فهي ما زالت تجري، وان كانت في نهاية المطاف تعارض الرسو على خطوة التأثيرات النائمة في العمل. فهي لا تغيب علاقة العمل بالواقع وان كان العمل تجريديا، فمهما ادعينا من عوالم فانتازية فهي بالنتيجة اضافات ابداعية خارج نطاق التفاصيل.

كل جهد تبذله خناف هنا، هو جهد ضمن طرح تكوين جمالي بمنحى ما قد يذهب بك الى الاقتران بتعددية الرؤيا، وذلك بالتطلع الى نسق يتوافر فيه ابتكار جميل مع الارتباط بطموح يفضي الى البحث عن هدف جمالي خفي.

يعتمد ذلك على التشدد على الازرق الهادئ جزئيا ليشكل، مع الامكانات المتوفرة لدى خناف، بث الرماد بين ثنايا هذا الازرق العائم على مدار منكسر قوامه تكتلات من غيوم لونية مليئة بازمات حادة، تحيط بجسد ابيض يطمح باجترار التحولات الحاسمة في التفاعلات ما بين الاحمر المبشور من روح كدموع للرب، وبين السماء الباكي التي فيها من التوافقية كل التكاملات السائرة بحلم يحترم الاختلاف، بل يقدسه الى حد القول بان الازرق لن يكون سماء الا اذا كانت روح الارض تستعير رمادها من مسار يفضي الى مفهوم حاسم لتقليب القول.

فالبداية ان يكون الاخر حاضرا حتى تكون انت… وهذا ما تركز عليه خناف في انجازها هذا، مع اعلانها لاسلوب قد يكون فاتحة طريق لها نحو افق اوسع.

اسلوب تجريدي ينفتح على اشكال وابعاد سيرسم لها عنوانا يبشرها بضوء قادم يفضي بها الى مشروع مستقبلي اساسه التفاعل بين الالوان مع خلق وعي لوني له علاقة قوية بالزمن، بل علاقة اقرب الى الحوار مع الذات بجدارة خاصة. وهذا ما يلقي بها في موقع يلائم انزياحها نحو التجريد، مع التجريب العابر من علاقات الجوار، مع الامكان على خلق حروب وهمية في العمل، حروب هي اقرب الى بث الروح بين التفاصيل الصغيرة جدا، وابراز صراعات الهيمنة مع اكتشاف اعصار جمالي بحماية نزعة روحانية.

اعصار له كل علائقه مع الحياة ضمن السياق المشارك في الفعل الذي يجعل القيمة المعيارية للعمل تجتاح التفكير رغم الشروط القاسية، مع اعطاء مفهوم انتقادي مبرمج لتتابع التدرجات في مراحلها كلها. لان ذلك يحول برأيي اندثار عمل خناف، فهي تسعى الى صيانة شروط لانجاز العمل وفق المطالبة الملحة بالتغيير في مفهومية الفن، دون طي جوهرية التجلي في مناصرة النمط المنتج.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

 

ا. د. قاسم المندلاوي

 

عامودا:

مدينة الفن والحب والجمال، تابعة لمحافظة الحسكة، وتبعد عنها 80 كم. تقع في شمال شرق اقليم كوردستان الغربي، وعلى الحدود مع تركيا وقرب مدينة قامشلو. معظم سكانها من الكورد مع اقليات عربية ومسيحية. يمر فيها نهر باسم “نهر الخنزير”.

اسست المدينة على يد مهاجرين سريان هربوا من تركيا في اعقاب مذابح…

يسر موقع ولاتى مه أن يقدم إلى قرائه الأعزاء هذا العمل التوثيقي القيم بعنوان (رجال لم ينصفهم التاريخ)، الذي ساهم الكاتب : إسماعيل عمر لعلي (سمكو) وكتاب آخرين في تأليفه.
رفوف كتب
وسيقوم موقع ولاتى مه بالتنسيق مع الكاتب إسماعيل عمر لعلي (سمكو). بنشر الحلقات التي ساهم الكاتب (سمكو) بكتابتها من هذا العمل، تقديرا لجهوده في توثيق مسيرة مناضلين كورد أفذاذ لم ينالوا ما يستحقونه من إنصاف وتقدير في…

حاورها: إدريس سالم

 

في زمن الانهيارات الكبرى والتحولات الجذرية، لم يعد ممكناً التعامل مع القضايا المصيرية بمنطق الإنكار أو الاستخفاف؛ فالمشهد السياسي السوري، بكل تعقيداته وتناقضاته، بات يفرض على الفاعلين الكورد مسؤولية مضاعفة في إعادة تعريف أدوارهم، وترتيب أولوياتهم، وبناء مشروع وطني يتجاوز الاصطفافات الضيقة والانقسامات القاتلة، فالسكوت لم يعد ترفاً، ولا الشعارات تُقنع جمهوراً أنهكته…

فراس حج محمد| فلسطين

مقدمة:

أعددتُ هذه المادّة بتقنية الذكاء الاصطناعي (Gemini) ليعيد قراءة الكتاب، هذا الكتاب الشامل لكل النواحي اللغوية التي أفكّر فيها، ولأرى أفكار الكتاب كما تعبّر عنه الخوارزميات الحاسوبية، وكيف تقرأ تلك الأفكار بشكل مستقل، حيث لا عاطفة تربطها بالمؤلف ولا باللغة العربية، فهي أداة تحليل ونقد محايدة، وباردة نسبياً.

إن ما دفعني لهذه الخطوة…