نجاح هيفو
في الاغتراب، وأنتَ ترفع عينيك نحو الأفق، تصطدم بنقطة وهمية تُسمّى “الحدود”. حدودٌ ليست مجرد خطوط على الخريطة، بل جدران صامتة نُقشت في أعماق روحك، زرعها التاريخ في قلبك، وأحاطك بها وكأنها قدر لا فكاك منه. هناك، خلف ذلك الخط المرسوم بالدم والخوف، ينام الوطن، ومعه كل ما تركت: البيت، الأزقة، رائحة الخبز، وضحكات الذين رحلوا مبكرًا.
الغربة ليست مسافة تُقاس بالكيلومترات، بل وجع متراكم في الصدر. هي حين تفتح نافذة في بلاد بعيدة، فتشعر أن الهواء باردٌ بلا روح، وتدرك أنك مهما تنفّست، لن يملأ صدرك سوى هواء قامشلو، ورائحة ترابها بعد المطر. كلّ ذكرى عابرة تُشعل في داخلك حرائق صغيرة، وكلّ أغنية تعيد إليك وجهًا منسيًا وصوتًا انكسر تحت ركام الزمن.
صوت “أڤين” ابنة جياي كورمانج، يشقّ الغربة مثل خيط نور يتسلل من شقوق الظلام. يحملنا من منافي البعد إلى قامشلو، إلى تلك الأيام التي ما زالت جراحها مفتوحة. صوتها يعيدنا إلى المجزرة، إلى دماء الأبرياء التي سالت على الأرصفة، إلى أحلام شبابنا التي تكسرت قبل أن ترى النور. ومع كل نغمة، نسمع وجع الأمهات، ونتذكّر العيون التي أغمضت قسرًا، والضحكات التي دفنت حيّة تحت ركام الخوف.
من الحب نولد، ومن الحب نتذكر الشوق، ومن الشوق نحيا بالوطن من جديد. الشوق ليس مجرد ذكرى، بل مقاومة صامتة، هو رفض النسيان، وتمسّك بما تبقّى من جذورنا في أرض كُتب عليها أن تبقى لنا رغم كل محاولات الاقتلاع.
تقول الأغنية: “أخاف أن يطلع الفجر، وأحلامك وضحكتك ما زالتا مدفونتين”. كأنها تخاطب كل واحدٍ منّا: أخاف أن يمرّ العمر، والفجر لا يجيء، والأحلام تبقى حبيسة القبور، والضحكات لا تعود إلا في الذاكرة.
لكننا، رغم كل هذا الألم، نؤمن أن الفجر قادم. قد يطول الليل، وقد يتكرر الغياب، لكن لا شيء يقدر أن يطفئ جذوة الوطن في قلوبنا. سنظل نحمل الأمل كما نحمل الذاكرة، وننقش في وجداننا يقينًا واحدًا: أن الوطن لا يموت، بل ينهض في كل مرة من بين الركام، وأن أحلامنا وإن تأخرت، ستشرق يومًا مثل شمسٍ لا تعرف الغياب.
===========
لمشاهدة الفيديو، يرجى النقر على الصورة: