روجين كدو
رحلتِ اليوم يا أمي، بهدوء يشبه نهايات الحكايات الكبيرة، تلك التي لا نجرؤ على تصديقها إلا حين نصحو فنجد البيت بلا قلب، والسماء بلا دفء. كنتِ سيدة البيت، عماده وأمانه، وها أنتِ اليوم جارة البيت، في مقبرة العائلة، قريبة منا كما لو لم تذهبي بعيدًا، لكنك لستِ هنا.
تسع سنوات مضت وأنا بعيدة عنكِ مكرهة، عبرتُ الحدود والأنهار والأسلاك الشائكة، الجبال والبحار، وألف متاعب، وكنتِ موزعة بين بناتكِ وأولادكِ وأحفادكِ، تعملين حتى آخر ساعة، حتى نسيتِ حبة الضغط، ونمتِ… نومًا لم تستيقظي منه.
لأول مرة استطعتُ أن أكون في مستوى مقدرة السفر نحوكِ، أن أجمع قوتي وكل شوقي، لكن قبل أن أقطع المسافات إليكِ، سبقتِني أنتِ وغادرتِ. كنتُ أظن أني سألحق بيدكِ فأقبّلها، أن أسبق الغياب، لكنه كان أسرع من طائراتي كلها.
كل أهل قرية دودان يعرفون حنانكِ. الآلاف أكلوا من خبزكِ، كنتِ مهندسة مضافة أبي، ربّيتِ أجيالًا، ووقفتِ في وجه المتاعب دون أن تتأففي، وعلّمتني الغناء منذ أن هدهدتِ مهدي، منذ أن حملتني كتفكِ وغنيتِ لي حتى غفوتُ.
ها أنتِ ترحلين بلا وداع، بلا كلمة أخيرة، بلا نظرة حانية تحملني لأيام الطفولة. لأوّل مرة أراكِ عبر شاشة باردة، في غرفة العناية المشددة، نائمة بعمق لا يشبه أي نوم سابق، نومٌ لا عودة منه.
أنتِ صنعتِ مجد أسرتكِ بيديكِ. تركتِ لنا خبز التنور في الثلاجة، الخبز الذي حملنا طعمه إلى مغتربنا الألماني، تركتِ سجادة صلاتكِ، عقد خرزاتكِ، هبريتكِ، وضحكتكِ الخجولة، أحفادكِ وحفيداتكِ، بناتكِ وأبناءكِ، وتركتِ قلبًا يتفتت هنا، حيث أقف أنا، أكتب بيدٍ مرتجفة، لأنكِ لم تعودي لتفتحي الباب كما كنتِ تفعلين دائمًا.
رحلتِ في يوم الجمعة، والجمعة كانت تحبكِ، تمامًا كما أحبكِ كل من عرفكِ.