الشاعرة هيفي بروارى ورحلة ماني

عصمت شاهين الدوسكي

القصيدة ترجمة الشاعر بدل رفو

إن الانتقال الفكري المتطور يعطي لكل شيء معنى
رحلة ماني أم رحلة هيفي ؟

أي نص أدبي يوضح بجلاء تداعيات ذلك النص بإيحاء أو رموز أو نموذج خاص يمد النص بالحركة، فلا بد من فعل مؤثر فكرياً وعاطفياً كي تنطلق في دوران التخيل والتأويل. ولكي يدوم هذا النص المدة التي يحيى مؤثراً، يُعتبر ذلك خلق كيان نصي كامل، وإن كان بناء وعي تدريجي يوحي للقراءة ويعتمد على فترة زمنية يكشف من خلالها قراءة متجددة، وكأن النص يكتب نفسه.

وإن كان الكاتب واسطة فترة النص الزمنية، فإنه أحياناً يتحرر من كاتبه ويحقق كياناً خاصاً ومتميزاً في المجال الأدبي، الذي يخلق عن رؤى مختلفة عن الواقع.

الأديبة الشاعرة هيفي بروارى من الأديبات اللواتي بدأن في كتابة الشعر في الثمانينات، وشاركت في عدة مهرجانات شعرية، وكتبت في عدة مجلات وصحف كردية. وزادت خبرتها أثناء عملها سنوات عديدة في تقديم برامج أدبية وقصائد في إذاعة بغداد – القسم الكردي، وشاركت في نشاطات عالمية كممثلة لكتاب الكورد.

كما عملت كمراسلة في صوت أمريكا – القسم الكردي، وفي راديو برلين – القسم الكردي. ولها عدة دواوين وكتب في الآداب المختلفة. هذه التجارب عززت استقلاليتها الفكرية والشخصية، مما ساعدها في أي عمل فعال ومثمر.

قصيدتها “رحلة ماني” التي ترجمها الأديب المبدع بدل رفو المزوري أضافت نموذجاً لما هو غير موجود: “العدل – الحق – الحرية”. فالحرية الموجودة ليست الحرية التي تخلق مبادئ قيمة، بل الحرية التي توافق كلمة “نعم”.

ومن خلال الصور الإيحائية في رحلة ماني، وكأنها وظيفة اجتماعية يجب تداركها لأنها تستند إلى مبادئ راقية وقيم إنسانية. وعلى اختلاف عن القضية العلمية التي أحياناً تبتعد عن العالم الواقعي، فإن الإيحاء من عالم غير محسوس لا يأتي إلا عبر النص الأدبي.

الشاعرة هيفي بروارى في مضمونها المتميز داخل رحلة ماني قدّمت صوراً شعرية إيحائية تخبر بشفافية عبر:
“ليلة ليلاء – أقبلت – أتيت أمشي الخيلاء”.
صور تعود بالقارئ إلى واقع الرحلة، فتربط الحاضر والمستقبل بالمعرفة والوعي والإدراك، وتقرب النموذج الضمني للذهن لتؤكد الحقيقة الموضوعية المستقلة: العدل، الحق، الحب، الحرية.

في مقاطعها:
“ليلة ليلاء … بفؤاد من دون حدود أقبلت على أبوابك وأمام قامتك الشامخة … الحقيقة تراتيل صلاة … وأتيت أمشي الخيلاء على دروبك بعلو أبراجك الشامخة مرفوع الهامة”.

إن الانتقال الفكري المتطور يعطي لكل شيء معنى، ويتمكن من خلاله أن يثبت – رغم التناقضات والمعاناة والمكابدات – عالماً لكل شيء فيه معنى. وكأن الجذور تمتد إلى أصلها، مما يدل أن الوظيفة الشعرية ليست مجرد صور تمد الآخر بالجمال والحب، بل هي موقف عام للوعي.

ومن خلال هجر العالم والانسحاب إلى مكان خارج العالم، تكشف الشاعرة حضوراً زمنياً معتدلاً حتى لو كانت الرؤية تجاهه سلبية أو إيجابية. فهي تكشف الأطر الزمنية بأحداث فكرية وعاطفية، وتحلل الخطوب المتراكمة، وتكون النبع الذي يمد الصورة الشعرية بالبطولة وفي الوقت نفسه بالوهن الفكري:
“أحياء خمد نورها – أعمالهم الغراب – أيامك الملقاة في الزنزانة – جسورك المتكسرة – أنهارك الغارقة بالهموم”.

هذه الصور تنجز فعل التراكمات المنكسرة وتفسر الصلة بين “أن يكون أو لا يكون”. إنها حالة من الدراما النصية، وكأنها تجلي رحلة ماني على أرض الواقع، تلهم الفكر وتثير التصور وتحيي الخيال.

إن تجديد وتجسيد هذه الصور تكريس للزمن وبيان للمعاصرة الشعرية، التي لا تضمن الجدل بل المأساة. ففي كل زوايا أزقتها “التي كستها الثلوج” والأحياء التي “خمد تنورها” وأطفالك “ينعق في أعمالهم الغراب”، تمتد تحت “سماء لياليك” حيث “الأيام الملقاة في الزنزانة” و”أنهارك الغارقة بالهموم”.

المأساة كتبت، والبحث المستمر بين ثنايا الرموز عن خيط يثير الحركة والفكر في الحياة يوحي أن العقل الواهن لا يقدر الموجود، ولا يقيم العدل أو الحق أو الحرية. ومن خلال الرموز:

  • “عبدال زيني” المغني الكلاسيكي الكردي الذي يغني في دواوين العشائر والأغوات،

  • “نهر مونزر” في مدينة ديرسم الكردية حيث ألقت الفتيات بأنفسهن فيه انتحاراً للحفاظ على شرفهن،

يتجلى البعد الاجتماعي والرمزي للرحلة.

عندما تصل الرحلة إلى بدليس – المدينة الكردية العريقة في تركيا، وعاصمة أمراء الكورد، ومسقط رأس المؤرخ الكردي شرف خان البدليسي أول من كتب تاريخ الكورد وكردستان – فإنها تمثل صورة تاريخية للتحول من الانكسار إلى الارتقاء الواعي، في مواجهة الأزمات والنكسات والجهل والفقر.

وتقول:
“بحثت عن فصولك المسروقة من التقاويم … ومواقد سمر التي هجرها عبدال زيني … وفي خضم أمواج نهر مونزر بحثت عن عذرية الفاتنات اللواتي لم تسعدن بليلة الدخلة … على إيقاع الأغنية الجريحة … بحثت في حجرات بدليس واحدة تلو الأخرى”.

إن البحث المستمر بين الشاعرة والإنسانية، وبينها وبين التاريخ، وبينها وبين الرمز العدلي، يجعل الموهبة الشعرية قادرة على تحقيق التفسير الملهم للفعل الزمني المؤثر.

الشاعرة هيفي بروارى لا تصدر حكماً جاهزاً من موقعها الفكري والعاطفي، بل تحاول أن تحدد الفهم اللاواعي إلى مدرك واعٍ، عبر الجمالية الشعرية الزمنية والرموز المختلفة بما تحمله من انكسارات ومآسي وارتقاء يجذب الوعي الإنساني.

حتى وإن كانت الشاعرة تماثل نفسها في الرحلة المانية:
“أصبحت مانياً … أصبحت مانياً”،
فالفكر والروح والقلب تميل للسلام والعدل والحب والحرية أينما كان.

وهنا يتجلى ماني مؤسس الديانة المانوية التي ظهرت في القرن الثالث، وهي خليط من الديانات البوذية والمسيحية والزرادشتية، قُتل على يد كهنة الزرادشتية.

الرحلة الشعرية التي تبدأ من الاستهلال “في ليلة ليلاء” وكأنها حلم زمني، تمر بالانكسارات والمعاناة، وترتقي عبر الرموز والشواهد التاريخية والفكرية. وهي في مضمونها رحلة إنسانية عامة، تترك أسئلة وإعجاباً مشدوداً إلى الصورة الشعرية الخلاقة والمبدعة فكرياً، نفسياً، وعاطفياً.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم زورو

كل ما تكتبه ليس لك إلا قائمة الطعام بكلام “امبرتو ايكو” فأنت تعرف ماذا يمكن أن تشتري من اشياء مادية، أنت تعرف ما ينقصك من المواد التي تحتاجها صحتك. أو لنعكس ما قاله “امبرتو ايكو” كل حياتك ليست ملكك إلا السجن فهو لك لأنه يقوم بعملية تصقيل الذات. جل ما ورد في متن الكتاب…

فواز عبدي

أتذكر، وأنا طفل، عادةً كانت دارجة في مجتمعنا في الريف –حين كانت نسبة التعليم متدنية جداً، والتعليم رفاهية- عادة اجتماع الرجال بعد العصر في ظل بيت من بيوت القرية. لم يكن الأمر لتبادل الأخبار وحدها، بل تتشعب الأحاديث في كل الدروب والمسالك؛ من السياسة إلى الزراعة، ومن السخرية إلى النميمة و.. و..

وبعد أن كبرنا…

إبراهيم اليوسف

مقاربة نقدية أُولى!

مدخل نظري

بدهي أن النص الشعري الذي ينجح في إعادة ترتيب الكينونة لا يقف عند حدود الزخرف أو المهارة التقنية، بل يتحول إلى مختبر تلتقي فيه الذاكرة بالمحو، ويختبر فيه الوجدان قدرته على ترميم نفسه أمام جدار الانكسار. في هذا المستوى، يصبح الشعر أداة فعل لا أداة وصف، ومساحة لتجريب حدود اللغة في…

عِصْمَتْ شَاهِينَ الدُّوسَكِي

 

فِكْرِي كُلُّهُ لِلْمَلِكَةِ الْجَمِيلَة

تَمُرُّ بِخُطَاهَا الْجَلِيلَة

صَبَاحٌ أُحَيِّيهَا

وَمَسَاءٌ تُحَيِّينِي تَرْتِيلَة

مَا الْعِشْقُ بَيْنَنَا حُرُوفًا

بَلْ أَرْوَاحًا عَلِيلَة

هِيَ حُبًّا

وَلِحُبِّهَا تَكُونُ دَلِيلَة

*****

يَا صَوْتَ الْمَلَاك

اِغْفِ فِي ظِلِّ نَبْرَاتِك

أرْتَوِي مِنْ رِيقِك

أَتَنَفَّسُ مِنْ أَنْفَاسِك

أبَعْثِرُ خَارِطَةَ

أَشْوَاقِي عَلَى رَاحَتَيْك

لَهْفَتِي خَمْرُ ضِحْكَتِك

حُرُوفُكَ الْهَارِبَةُ

مِنْ إِحْسَاسِك

أَنْتَ قَصِيدَةُ شَوْقٍ لَا تَنْتَهِي

تَرْتَعِشُ يَدَيَّ بَيْنَ يَدَيْك

حُبُّنَا جُنُونٌ فِي مِحْرَابِ الِانْتِظَارِ

قَدْ نُعَانِي لَكِنِّي أَسْكَرُ مِنْ هَمْسِك

*****

مَرَّتْ لَحَظَاتٌ

كَالْفَلَكِ تَسْرِي فِي الْبُحَيْرَاتِ

لَحَظَاتٌ…