ثقافة برهيتكو

فواز عبدي

أتذكر، وأنا طفل، عادةً كانت دارجة في مجتمعنا في الريف –حين كانت نسبة التعليم متدنية جداً، والتعليم رفاهية- عادة اجتماع الرجال بعد العصر في ظل بيت من بيوت القرية. لم يكن الأمر لتبادل الأخبار وحدها، بل تتشعب الأحاديث في كل الدروب والمسالك؛ من السياسة إلى الزراعة، ومن السخرية إلى النميمة و.. و..

وبعد أن كبرنا قليلاً صرنا نطلق عليها اسم “إذاعة برهيتكو”. فإذا ما نقل لنا أحد خبراً نسأله عن المصدر، فيقول: من إذاعة برهيتكو.. ويتبعها بضحكة طويلة كأنها ختم الجودة..

 كانت الإذاعة تعمل وفق مبدأ (قل ما تشاء، وانسَ ما قلت)، لا أرشفة، لا تسجيل ولا نوايا خبيثة؛ مجرد فضفضة جماعية في ظل جدار طيني..

 

نعم في زمن الجدار –زمن برهيتكو- كانت الأخبار تروى على استحياء، وبلا نوايا خبيثة. أما اليوم فقد تطورت إذاعة برهيتكو، تحولت، دخلت العصر الرقمي، وخرجت من ظل الجدار إلى غرف مظلمة، فيها شاشات، وأصابع تكتب بسرعة، وعيون تراقب كل منشور، وكل تعليق، وكل صورة، بل وكل تفاعل مع أي منشور. باختصار تحولت الإذاعة إلى ثقافة؛ ثقافة برهيتكو. أصبحت منظومة فيها فرق عمل مدربة:

الكشاف أو الشمام: يشم المنشورات كما يشم الذئب أثر الفريسة.

المؤرشف: لا يفوته شيء، يحفظ حتى التعليقات على صور القطط.

المحرر: يضيف البهارات والسم والنية السيئة.

الناشر: يطلق القذيفة في الوقت المناسب ويقعد على شرفة نيرون ليستمتع بمشاهدة الحريق.

وأقوى برهيتك هو الذي يجمع كل هذه المواهب في شخص واحد.

والمتصيدون اليوم –العاملون في كل برهيتك- لا يحتاجون إلى سبب.. يكفي أن تكتب “صباح الخير” ليبدأ التحقيق:

  • لماذا صباح؟
  • ولماذا الخير؟
  • وهل تقصد أن أمس كان شراً لا خير فيه؟
  • أم أنك تلمح إلى أحد ما؟ وتسخر منه؟

كل شيء قابل للتأويل.

وكل تأويل قابل للتسليخ.

وكل تسليخ قابل للنشر.

برهيتكو الحديثة اليوم لا تكتفي بالنميمة والسخرية، وإنما تصنعها وتؤطرها وتوزعها كوجبات جاهزة.

والمضحك أن البرهيتكيين لا يملون؛ يعملون بلا راتب، بلا عطلة وبلا ضمير. هم لا يكرهونك شخصياً، فقط يكرهون أن تكون مرتاحاً.

في زمن برهيتكو الأول كانت الكلمة تقال وتُنسى، أما اليوم تقال، تحفظ، تحلل في مختبرات الحقد، تعاد تدويرها وتُستخدم ضدك في محكمة برهيتكو العليا.

فهل نغلق الإذاعة؟!

لا أظن أنه بإمكاننا ذلك، فقد أصبحت في كل مكان: في الجوال، في التعليقات، في الخاص، في “السكرين شوت” وفي… وفي…

برهيتكو اليوم لا تحتاج إلى ظل جدار، بل إلى ظل النوايا.

ولأنني كتبت هذا المقال الآن، فأنا متأكد أن لجنة “برهيتكو العليا” بدأت تجهز ملفي.. وسيكون عنوان الحلقة القادمة:

من موَّل كاتب المقال؟!

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم زورو

كل ما تكتبه ليس لك إلا قائمة الطعام بكلام “امبرتو ايكو” فأنت تعرف ماذا يمكن أن تشتري من اشياء مادية، أنت تعرف ما ينقصك من المواد التي تحتاجها صحتك. أو لنعكس ما قاله “امبرتو ايكو” كل حياتك ليست ملكك إلا السجن فهو لك لأنه يقوم بعملية تصقيل الذات. جل ما ورد في متن الكتاب…

عصمت شاهين الدوسكي

القصيدة ترجمة الشاعر بدل رفو

إن الانتقال الفكري المتطور يعطي لكل شيء معنى
رحلة ماني أم رحلة هيفي ؟

أي نص أدبي يوضح بجلاء تداعيات ذلك النص بإيحاء أو رموز أو نموذج خاص يمد النص بالحركة، فلا بد من فعل مؤثر فكرياً وعاطفياً…

إبراهيم اليوسف

مقاربة نقدية أُولى!

مدخل نظري

بدهي أن النص الشعري الذي ينجح في إعادة ترتيب الكينونة لا يقف عند حدود الزخرف أو المهارة التقنية، بل يتحول إلى مختبر تلتقي فيه الذاكرة بالمحو، ويختبر فيه الوجدان قدرته على ترميم نفسه أمام جدار الانكسار. في هذا المستوى، يصبح الشعر أداة فعل لا أداة وصف، ومساحة لتجريب حدود اللغة في…

عِصْمَتْ شَاهِينَ الدُّوسَكِي

 

فِكْرِي كُلُّهُ لِلْمَلِكَةِ الْجَمِيلَة

تَمُرُّ بِخُطَاهَا الْجَلِيلَة

صَبَاحٌ أُحَيِّيهَا

وَمَسَاءٌ تُحَيِّينِي تَرْتِيلَة

مَا الْعِشْقُ بَيْنَنَا حُرُوفًا

بَلْ أَرْوَاحًا عَلِيلَة

هِيَ حُبًّا

وَلِحُبِّهَا تَكُونُ دَلِيلَة

*****

يَا صَوْتَ الْمَلَاك

اِغْفِ فِي ظِلِّ نَبْرَاتِك

أرْتَوِي مِنْ رِيقِك

أَتَنَفَّسُ مِنْ أَنْفَاسِك

أبَعْثِرُ خَارِطَةَ

أَشْوَاقِي عَلَى رَاحَتَيْك

لَهْفَتِي خَمْرُ ضِحْكَتِك

حُرُوفُكَ الْهَارِبَةُ

مِنْ إِحْسَاسِك

أَنْتَ قَصِيدَةُ شَوْقٍ لَا تَنْتَهِي

تَرْتَعِشُ يَدَيَّ بَيْنَ يَدَيْك

حُبُّنَا جُنُونٌ فِي مِحْرَابِ الِانْتِظَارِ

قَدْ نُعَانِي لَكِنِّي أَسْكَرُ مِنْ هَمْسِك

*****

مَرَّتْ لَحَظَاتٌ

كَالْفَلَكِ تَسْرِي فِي الْبُحَيْرَاتِ

لَحَظَاتٌ…