ابراهيم زورو
كل ما تكتبه ليس لك إلا قائمة الطعام بكلام “امبرتو ايكو” فأنت تعرف ماذا يمكن أن تشتري من اشياء مادية، أنت تعرف ما ينقصك من المواد التي تحتاجها صحتك. أو لنعكس ما قاله “امبرتو ايكو” كل حياتك ليست ملكك إلا السجن فهو لك لأنه يقوم بعملية تصقيل الذات. جل ما ورد في متن الكتاب المذكور هي خصيصاً لك.
أو لنقل على لسان ادونيس، “النص مهما كان عظيماً إذا قرأه عقل صغير يتحول هذا النص إلى نص صغير” لا اقصد القارىء حكماً، بل شيئاً قريباً من هذا وهو: الكتاب كله لك وعليك بلسان واضح ومبين. لذلك هذا النص يبقى كبيراً وعظيماً ليس لأنه يخصني بل يتكلم عن خصوصيتي أنا، وأنتم تعرفون ماهو الأنا،
نصار لم يقل عن السجن هو آفة شخصية تقزم الذات إلى حد الذي وصفه كافكا عندما يوصف الصرصور! ياإلهي هذا السجن كم له قوة قاهرة تشد الذات كوجود فيزيقي والنفسي على “سرير بروكرست” (الزمني) كان الرفاق في الخارج سنداً لي واليوم باتوا اعداء لي، بالمشاركة “بروكرست” في ليّ ذاتنا، لهذا كان نصار يهدأ النفوس قليلاً عندما يتكلم عن الذات بهذا الشكل الرائع: ” لا تقتربْ من الحلم أنكَ أوشكتَ الخروج من هذا الجحيم، هكذا يهتف صوتٌ قادماً من نافذات..” أي حلم يقصده الكاتب فأن الخروج منه حجيم والبقاء فيه حجيم، والحجيم فيه جحيم، وكأنه يقول لا تخرج من النص لسان حال السينما والمسرح، النص سجناً هاهو يربط الجسد لكنه لايستطيع أن يكبل الخيال الذي يتبع هوى العقل، وكأننا نفصل بين الذات والنفس وهذا ليس جائزاً، وبقايا الدموع أهلنا يمتزج بحرماننا من حريتنا، هكذا سنجف رويداً رويداً في هذا المكان الرطب!
وكذلك يورد في مكان ما من هذا السجن(النص) قسحة أخرى كي يتنفس القراء بأن المكان هو نص كبير كما اوردنا اعلاه قول لادونيس.
ويضيف نصار: انتابنا الشعور بأنَّ مراكبنا سوف ترسو أشرعتها عبر هذا الضباب التدمري
عمتِ صاخبةً غرغرَ نهداكِ المساء
على خابيةٍ من همسات العمر
راودني حفيفَ المكانِ…
ليس هناك حفيفاً للمكان، بل هناك زعيقاً، صراخاً، دموعاً ترش على صدر نص”السجين” كانت أمه تفرك وجودها به عندما تكبر كي يعتني بها وهي صغيرة،
يعلمنا السجن أننا عشاق الحياة، نصادق جملة وتفصيلاً مما ذهب إليه محمد عندما قال”احب إلي من دنياكم ثلاث: النساء والطيبات وجعلت قرة عيني في الصلاة”
“النساء والطيبات” خارج هذا المكان، وأما الصلاة لا يجوز تأديته في مكان نجس!
اعتقل نصار اغنية ماجدة الرومي! ” يسمعني حين يراقصني كلمات ليست كالكلمات..”
هذا التناقض بين الواقع والاغنية ربما تصل إلى ذروته، ” يأخذني من تحت ذراعي” فعلاً كيف التقط الكاتب هذه الجملة بل والاغنية بكاملها عذاب سجين، هناك تناص واضح على مستويين النظري والعملي، اذا ربطنا ذلك مع بعض قراءات جورج طرابيشي حول المغتصب”بالفتحة” “وبالكسرة” وظيفة كل منهما جلي لا داعي للشرح هنا.
كل عنصر الامن يأخذ الضحية من ذراعه! وكيف ارقص على كلماته خوفاً وهلعاً على أن اخرج من شرفته عذراء! وإذا ما نجحت في أكون عذراء سيزرعني رفاقي في أحدى الغيمات المظلمة!.
نعرف جميعاً أن السجن ليس مكاناً صحياً لكنه بالتأكيد يجعل منك إنساناً آخر، قوة التحمل والصبر أن تخرج لتكون سجيناً من نوع الآخر “يعلمنا السجن أننا سجناء” كل من يشتغل في حقول الثقافة الانسانية يعرف جيداً الصبر أداة من ادوات العقل ويصون الإرادة صلبة!.
نصار يحيى جعل من السجن مدرسة جميلة! وعليهم أي على المساجين أن يتعلموا لغة جديدة كما هو حال الكوردي الذي يلم لغته في صرة أجداده ليتعامل مع لغة أخرى، الذي لايستطيع بأي حال من الاحوال أن يعبر بها عن نفسه! رغم أنها تعتبر عقوبة وجودية قاسية من معلم عربي(فماذا لو كان عنصرياً) هو مبدأ السجن ذاته!. باللغة وحدها يحيا الانسان! بالصبر وحده نتعلم أن نتواشج مع السجن وقوانينه الغامضة، أدوات السجان: شتائمه، صراخه، بصاقه، سياجه، سوطه، شكله الذي يبعث على الغثيان، وخاصة إذا كان من مريدي النظام عندئذ له صولات وجولات اخرى! تلك هي مفرداته الوطنية ضد من تسول له نفسه أن يعادي قيم رئيسه(لكنه ربما لا يعلم بأنه الامور تقاس عكس ذلك) أو كما قال انجلز بأن السجان هو العبد طبعاً بالمعنى الثقافي، بينما السجين في الواقع هو حر طليق! ياله من قانون مفتول العضلات! وهل نستطيع أن نقنع السجان بأنه العبد وهو يزور اهله ويحكي قصصاُ عن السجناء لحزب معين! وكيف يعذب هؤلاء الخونة!.
تبدأ سيمفونيته نصار يحيى بهذا الشكل (خلال هذا العام خريف وشتاء 1982، بدأ البرد الصحراوي وعلى رسله -على قول أصحاب الخبرة أنه عام مميز بصقيعه ولاول مرة وعشرات السنين مضت: إنها تثلج!!)
تصوّروا كيف وبخ النظام السوري تاريخ تدمر بسجنه السيء الصيت الذي غطى أو أغبر على ملكة زنوبيا “وجعلها كعصف مأكول” كي يوجه الانظار إليه فقط، قد حاول نصار بعلمه أو بدونه أو لنقول بلاشعوره أن يجمّل تدمر بمجموعة شباب الطامحين إلى رفع المستوى الغبن الذي غطت على شال زنوبيا، لذا كان الثلج علامة مميزة للساكنين في الصحراء!. ودليل صارخ على أن زنوبيا ملكة في التاريخ لا يغبر عليها أي مارق سوى لحظات وربما أقل!
مما يزيد من اعتقاد أن نصار يحيى كان متأثراً بفلسفة “سبينوزا” على أنه يحكي نصف الحقيقة ويترك النصف الآخر للقارىء المشاغب! لهذا فهو قد لمس كل المواضيع التي جرت معهم خلال فترة اعتقالهم من الناحية: الثقافة، حياة اجتماعية، الفن، الايديولوجيا، ترطيب الجو، حياة السجناء وتأثرهم بالمحيط الخارجي، الحب، حياة الجنسية، الخدمة. صراعات أو نقاشات سياسية في السجن الذي هو امتداد للخارج، كل هذه الابواب متاحة لك بجمل قصيرة فيه ابداع يسمو في السماء، هناك قلة من يجيد هذا النوع من الكتابة.
في السجن تمسي عارياً، اسمك الذي تعبت عليه في تكوينه بات واضحاً، عنوانك الذي خبأته في صرة جدتك بات واضحاً، هنا سوف تعيش بجسدك باسم اهلك الذين سمّوك، وهنا يذهب تفكيري إلى مكان آخر، طالما تعيش باسم مزيف ربما تعاملك سوف يكون كذلك طالما الملكية الفردية من صلب أنا وهو أمر لا يحمد عقباه، لحسن الحظ أنك سوف تعيش وأنت أنت في اقذر مكان من حيث أنه سجن عقوبة نظام على افعالك واعمالك وانت تعيش مزيفاً شكلياً لهذا يمكن أن أقول المعادلة غير متكافئة، ولا ننسى بأن السجن يقزم الوجود ليضع النظام وجوده مكان أي وجود مهما كان صغيراً أو كبيراً لا يهم، لأن أساس في تلك العقوبة هو أنك تعترف بوجوده ولو كان شكلياً وهذا لن يهمه.
نقرأ في جزء الثالث بدأ الرقاق في ترتيب ذواتهم من حيث ابدعوا بصناعة الشطرنج وكذلك بالمكتبة السجن التي تحتوي على بعض الروايات وكذلك “النرد”
إن بناء الذات في تلك الاماكن المغلقة يلزمه الأصرار كونك ستشذبه وتقنعه بحقيقة وجودك ولماذا أنت هنا؟ في هذا المنحى يقول فوكو: ” أن أية علاقة مع نظام الحقيقة ستكون لها علاقة بي في الوقت نفسه…..إن أخضاع نظام حقيقة ما للمساءلة، نظام يتحكم بتخليق الذات، يعني أخضاع حقيقة نفسي للمساءلة، وهو في الواقع إخضاع قدرتي على قول الحقيقة عن نفسي…”
إن هذا القول من الصعوبة أن تخلق ذاتك ضمن مجموعة ايديولوجية الكل قد علقوا عقولهم على مشجب ذلك المكان، لذا لا يمكن بأي احوال أن تحاول أن تتفنن في تربية نفسك، وتلك متعلق بسير العمل اللجنة المركزية في ذلك المكان، كان على اعضاء أن يحاولوا المحافظة على الذات وسلامته، الذات الذي كنتَ يوماً تتسول منه أن يكون بجانبك!. في ذلك المكان، الاخلاق هو الأهم ويهمل باقي المواضيع نهائياً، فالحياة الاجتماعية تصبح أرضية التي تحافظ على ذاتنا كي لا نقع في الشرك المنصوب لنا أو أن هذا المكان هو شركاً! وخلاف ذلك، اعتقد الأمر بحكم المنتهي بين ابناء التجربة الواحدة! يقيناً الحوار ينتفي في السجن كونه يسير على رجل واحد اعرج طالما المكان غير صحي لجهة المواضيع الخلافية. وتذهب “جوديث بتلر” في موضوع ذاته: ” إن خُلصنا إلى أن اخفاق فوكو في التفكير بالآخر حاسم قد نغفل عنه أن وجود الذات نفسه لا يعتمد على وجود الآخر في تفرّده (كما يشاء له ليفيناس)حسب، ولكن أيضاً على بعد الاجتماعي للمعيارية التي تتحكم في مشهد الاعتراف”
لهذا عندما نتحرر من قيود بعضنا وليس من قيود النظام نصبح احراراً أكثر ربما كنا نحاول أن ننزع الاعتراف من النظام القائم ونسينا أننا بحاجة إلى الاعتراف ببعضنا قبل أن نطلب من أحد أخر؟! هي تلك المعادلة التي يجب أن ننتبه لها.
ماهي قواعد الاعتراف إذن؟ لها عدة مستويات بين ابناء ايديولوجيا الواحدة والطرف الاخر(نظام وجماعته، الاحزاب التي تساند النظام) بقول واحد تناقض الرئيسي والثانوي، في السجن المعادلة تختلف، كي تعيش عليك أن تأخذني عدواً أو عبداً لك، يبدو أن هدف الرفاق قد طاله التغيير فمن دحر الدكتاتورية إلى دحر الرفاق! وإلا لما هذا التصرف بحق بعضهم البعض! عليك أن تزرع الحب هنا كي تحارب الحقد هناك.
الرفاق في المركزية لم ينتبهوا أن عوائل رفاقهم تتكبد خسائر مادية وتشوبها حالات الطلاق كان الاجدى أن تقف عندها كي تبني الانسان لا أن تعاديه وتصّفه باقذع الصفات والشتائم!؟.
سراب، علياء، ريم…كثيرات غيرهن تركن احلامهن وتطلقن هي حالات الاجتماعية تجد انعكاساتها مباشرة وبشكل قوي على الحالة السياسة؟ أوليست الحياة وحدة متكاملة لا توجد فواصل الاستراحة بين هنيهاتها أبداً، إلم تقرأ في وجوه رفاقكم إلماً وحزناً وفي فقر عوائلهم جبين تندى، كل حالة السياسية لا تأخذ حالة الاجتماعية بالحسبان فهي لا قيمة لها أبداً طالما نحن نتكلم عن بناء الانسان. لا ينسى المرء بأي حال من الاحوال من الذي اعتدى عليه بدون سبب؟ ربما فقط ليعلو جداره على حساب بريء هو قادر عليه لأن اخلاقه لا تسمح له أن يصرخ في وجه من كان له عوناً ورفيقاً في وقت ما.
“إن القواعد التي اعترف بموجبها بالآخر، أو في الواقع بنفسي، ليست ملكي وحدي. إنها تفعل فعلها بقدر ماهي اجتماعية، متجاوز أي تبادل ثنائي تقوم هي بتكييفه”
نصار يحيى يحاول أن يضع التعويذة على اغلب ابواب، ككتابه شعر، أو قطعة ادبية، كي يخفف معاناة الخارج للداخل ويقول انظر إلى صخبنا الداخلي؟ وعليك أن تفسر ولن يهمه أن تكون ضده أو معه، هذا الموضوع تجاوزه الكاتب منذ فترة طويلة.
لم يستطع نصار يحيى أن يستمر بحياديته في سرد الماضي ففي الباب الاخير(21) حنين والدته تسيطر عليه جملة وتفصيلاً، فقد وقع ووقعنا معه في فخ منصوب بشكل طبيعي، وكسر هدوءه المعتاد، وربما تساءل بينه وبين نفسه، هل الحنين يبدد الخوف! أو أن هذا السكون قبل العاصفة التي عليها أن تقلب الامور رأساً على العقب، أن يضربك الحنين إلى شوارع كنت تتخيله ذات يوماً في برودة السجن تدمر! وأن تلامس جسد كان عزيزاً عليك؟ أو أن احدهم قد ندم على تصرفه معك؟ سواء من السكان الداخل أو الخارج؟ “يعلمنا السجن أننا كنا سجناء”.
لماذا الجزء الواحد والعشرين وينهي السيد نصار حكاية تدمر صيدنايا، ربما هو بعدد المهاجع التي زارها منها 20 في صيدنايا مفتوحة على بعضها البعض والواحد يرمز إلى تدمر! ففي كل مهجع حكاية يومية، معرفة الاشخاص باسمائهم حقيقية، سخرة( بلدية)، سياسة، اقتصاد، حلقات الدراسية، رياضة، مسرح، موسيقا، تمثيل، امسية قصصية، أخرى شعرية، متفرقات من الاخبار، يومية، حول المعتقل، اخبار الزيارات، اخبار الطلاق، اخبار حول مجلة الرؤى، حفلات غنائية، سهرات مختلفة، النقد.
هذه العناوين تتكرر يومياً بطريقة جميلة، طبعاً قد حاولت أن استثني معارك السياسية بين رفاق الامس اعداء اليوم، وكذلك اغلفت عن تصرفات الشخصية أو ردات الفعل! الصادرة من بعض الشباب نتيجة وضعهم النفسي وما إلى ذلك.
بقي لي أن اشكر الصديق نصار يحيى على هذه الابداعات الجميلة فهو قد ابدع في هذا الكتاب كما هو الحال مع كافة مقالاته التي كتبت بهذه المناسبة أو تلك، والتجربة حزب العمل الشيوعي باتت قصة قديمة جداً نتيجة التطورات التي شهدتها بلدنا سوريا منذ عام 2011 وليومنا هذا، وهي وجهة نظري الشخصية.
بعض المقاطع بين قوسين من كتاب: جوديث بتلر الذات تصف نفسها، ت فلاح عبد الرحيم، دار التنوير ط اولى 2014