إدريس سالم
«من زياد الرحباني إلى مچو كندش: أصوات تكتب الذاكرة مقابل أغنيات تُستهلك في ثوانٍ».
في العقود الماضية، كان الفنّ يمرّ عبر قنوات محدودة: المذياع، الكاسيت، التلفزيون. وكان بقاء العمل أو زواله محكوماً بقدرة لحنه على الصمود أمام الزمن، وبقيمة كلماته في قلوب الناس. النقّاد والجمهور معاً كانوا حرّاس الذائقة. أما اليوم، فقد صارت فيه الشاشة نافذتنا الوحيدة على العالم، لم يعد الفنّ يُقاس بقدر ما يحمله من دهشة، أو بما يتركه من أثر في الوجدان، بل بعدد النقرات والرموز الرقمية التي تَسِم حضوره العابر. لقد تحوّل الذوق من فعل إنساني حرّ إلى معادلة رياضية تديرها الخوارزميات: كلّ ما يثير انتباهاً سريعاً يُدفَع إلى الصدارة، وكلّ ما يحتاج إلى إصغاء وتأمّل يُقصى إلى الظلّ. وهنا تكمن المفارقة الوجودية للفنّ اليوم: أن قيمته لم تعد تُستمدّ من جوهره، بل من قابليته لأن يتحوّل إلى «محتوى».
غير أن الفنّ، في جوهره الأعمق، أبعد ما يكون عن «المحتوى»؛ إنه اختبار للزمن، وحوار صامت بين الإنسان وذاته، وإشراق يرفض أن يُختزل في لحظة استهلاك عابرة. فالأغنية التي لا تحصد ملايين المشاهدات قد تظلّ مع ذلك نهراً جوفياً يغذّي الذاكرة الجمعية بالحياة، وإن لم ترَه العين. المعيار الحقيقي ليس الضجيج الذي يعلو اليوم، بل الصدى الذي يبقى غداً.
وأنا أتنقّل بين قنوات الموسيقى على اليوتيوب، استوقفتني مفارقة موجعة: فأغنية “Symfonyay Guman” للفنّانة الكوردية وعازفة القيثارة تارا جاف، منشورة منذ عقد كامل، لم يتجاوز عدد مشاهداتها سبعة عشر ألفاً، وموسيقاها وأغنيتها وصوتها تنضح بجذور التاريخ الكوردي، مشبّعين بأصالة هادئة كالماء في صفائه، وبصوت لا يستجدي التصفيق، بل يستدعي الإصغاء. في المقابل، أغنية «خطية» للسورية الصاعدة بيسان إسماعيل، حصدت أكثر من (223) مليون مشاهدة في ثلاثة أشهر فقط، رغم بساطة نصّها واعتمادها المفرط على التكرار، ولحن مستقيم بلا مفاجآت ولا تأويلات، وأداء تقني أكثر منه طبقي متنوّع. انتشار صاخب، لكن بقيمة فنّية محدودة، وكأن أغاني «الترند» تُكتب وتُلحّن وتُوزّع وتُصوّر بأكثر من جلسة تصوير، وفي الأخير لها عمر زمني مرسوم ومخطّط.
ثم تأتي أغنية زياد الرحباني «بلا ولا شي»، بعمقها الاجتماعي والفكري وسخريتها الذكية الهادفة، لتقف شاهداً آخر: أكثر من أربعة ملايين مشاهدة في سبع سنوات، وهو رقم متواضع مقارنة بالضجيج الرقمي، الذي تحصده أسماء صاعدة بين ليلة وضحاها. هنا يتجلّى التناقض: أعمال تُنحت في الذاكرة ببطء، وأخرى تلمع لحظة وتذوب مع أول موجة جديدة.
وهكذا تتكشّف المعضّلة الكبرى «الفنّ الأصيل في زمن الخوارزميات». فالمنصّات الرقمية لا تسأل عن القيمة الفنّية والأثر الإنساني والحضاري، بل عن القابلية وسرعة التداول؛ لا تزن الأصالة، بل تقيس قابلية الاستهلاك. كلّ شيء محكوم بقانون «اللحظة»: ما يُضحك، ما يُرقّص، ما يثير تفاعلاً عابراً، ما يثير الشهوة بالاستعراض والاستهلاك. أما ما يحتاج إلى صبر وإصغاء وتأمّل، فيُقصى على هامش الضوء، كأنه وُجد لقلّة تعرف كيف ترى ما وراء الضجيج.
والفنّ ليس أصواتاً تتراقص على إيقاعٍ عابر، بل ذاكرة تُنقَش في وجدان الشعوب. فحين يعود الفنّان اللبناني فضل شاكر إلى الساحة الغنائية بأغاني مثل «صحّاك الشوق» و«كيفك ع فراقي» و«الحبّ وبس»، ويغنّي بعبقرية وإبداع، فهو لا يقدّم أغنية فحسب، بل يترك بصمة شعورية تتجاوز لحظة الاستماع. صوته لا يُراهن على الخوارزميات ولا على ضجيج المنصّات، بل على القلب الإنساني بما يحمله من حنين وألم وفرح. إنه ينتمي إلى مدرسة تؤمن أن الفنّ معنى، وأن في المعنى خلوداً.
في مقابل موجة الأغاني الاستهلاكية السريعة، وعلى الساحة الكوردية تحديداً، يعود الفنّان الكوردي وابن مدينة كوباني مچو كندش أيضاً إلى الغناء والسينما، بفيلم وأغنية سيطلقهما في مهرجان كوباني السينمائي بدورته السادسة في ألمانيا، والذي يُعرَف بأنه «صاحب الحنجرة الذهبية»؛ حيث يتّخذ صوته طبقات نقية وصافية تجسّد وحدة الفنّ والجوهر الكوردي العميق. إنه صوت لا يروّج لذات فردية بقدر ما يضع الفنّ في معترك الثقافة الكوردية الغنية، ليُرسّخ شعوراً بالانتماء الجماعي.
يقول كندش في إحدى مقابلاته مع موقع « باسنيوز »: «إن قسطاً كبيراً من وجودك ككوردي يكمن في فنّك الكوردي»، معتبراً «الفنّ وخصوصاً الغناء، يعتبر حاضنة التاريخ الكوردي ومرجعاً مهمّاً في تحديد الوجود الكوردي، وبالتالي هُويته»، ويرى أن «سماع جملتين من أغنية كوردية كافية بأن توقظ فيك هذا الشعور اللا إرادي المبهم بالانتماء إلى هذه الأغنية، التي تلامس مشاعرك بعمق، حتى وإن كان إلمامك بلغتك الأمّ محدوداً».
وهذا الكلام إن دلّ على شيء، فهو يدلّ على أن الفنّ في رؤيته ليس ترفاً (كما هو عند الشامي وبيسان)، بل فعل وجودي وفلسفي.
إذن، الفنّ الذي يقدّمه مچو كندش هو فنّ المقاومة، فنّ الهُوية، وفنّ الوجود. إنه ليس مجرّد أداء غنائي، بل رسالة حضارية وتاريخية توفّر صوتاً شعبياً يعبّر عن روح الأجداد وينسج أواصر جديدة بين الأجيال. وفي عالم يسرع نحو العولمة، يُعَدّ صوته حاملاً لشعلة الفلكلور الكوردي الرفيع، متحدّياً النسيان ومعلناً للعالم: «أنا حاضر، أنا كوردي، وأغنّي من أجل ذلك».
وهكذا يتجلّى الفارق بين مَن يجعل الفنّ سؤالاً وجودياً عن الحبّ والجمال والروح وتسخيره للإنسان والمجتمع، وبين مَن يحوّله إلى «ترند» مؤقّت؛ بين أغنية ترافقك في لحظاتك الأصدق، وأخرى تلمع كشرارة وتختفي في عتمة التكرار.
وما يحدث اليوم ليس ظلماً لتارا جاف أو مچو كندش أو زياد الرحباني أو فضل شاكر وحدهم، بل هو ظلم للفنّ ذاته، بوصفه رحلة وجودية. فالفنّ الذي ينقّي الروح لا يجد مكانه في عالم تحكمه الخوارزميات، حيث يُختزل الإبداع إلى «مقطع قصير»، وتُختصر التجربة الجمالية إلى «ترند» يذوب كما يذوب الملح في الماء.
ومع ذلك، تبقى حقيقة لا يمكن إنكارها: المشاهدات ليست معياراً للخلود؛ فما يخلّد العمل الفنّي ليس الرقم، بل قدرته على أن يسكن الوجدان ويؤسّس ذاكرة جمالية في روح الإنسان والمجتمع. أغنية تُنصت إليها القلوب ولو بعد عقود، أصدق وأبقى من ملايين مشاهدات تُستهلك ثم تُلقى في مقابر النسيان. فالفنّ الحقيقي، مثل نهر جوفي، قد لا تراه العين دائماً، لكنه يسري في الأعماق، يغذّي الأرض، وينتظر مَن يُصغي إليه، ليدرك أن الجمال لا يُقاس بعدد «الكليكات»، بل بعمق الأثر في الروح.
أخيراً، لقد صاغت المنصّات الرقمية ذائقة جديدة، جعلت الجيل الصاعد يتعامل مع الموسيقى كمحتوى عابر، لا كتجربة وجدانية. فأغنية تارا جاف، التي تعكس أصالة تاريخية لم تحصد سوى بضعة آلاف من المشاهدات، بينما أغنية «خطية» لبيسان إسماعيل، أو «دكتور» للشامي، وغيرها من أغاني المحتوى الفارغة من المحتوى، تجاوزت مئات الملايين بفضل قابلية التكرار والانتشار اللحظي. وهنا يتجلّى الفارق بين فنّ يُخاطب الوجدان العميق، وآخر يخاطب إيقاع اللحظة واحتياجات الخوارزمية، وكأن الأغنية لم تعد مشروعاً جمالياً فحسب، بل أصبحت منتجاً تجارياً قصير العمر: يُكتب ويُلحن ويُوزّع ويُصوَّر على عجل، ليُستثمر في مقاطع «تيك توك» و«ريلز»، وفي المقابل، ما يُبنى على أصالةٍ حقيقية يتحوّل إلى إرث ثقافي طويل الأمد، حتى وإن لم يحصد الأرقام الكبيرة.