خرائط الروح

ماهين شيخاني

كان طفلاً صغيراً يجلس في الصفوف الأولى، يراقب معلمه وهو يرسم الخرائط بخطوط من طباشير بيضاء.
كل خطٍ كان يشبه نَفَسَ حياة، وكل دائرة ترسم مدينةً تضيء في مخيلته ككوكب.
أحب مادة الجغرافيا كما يُحب العطشان قطرة الماء، وحفظ الجغرافيا والوطن العربي كما لو كان نشيداً يردده قلبه الصغير.
طاف بخياله في مدن بلده وقراه، حتى صار يعرف كثافته السكانية كما يعرف عدد إخوة بيته.

كبر الصبي، فاكتشف أن الخرائط ليست كلها متشابهة.
هناك خريطة أوسع… اسمها كوردستان.
سافر إليها بروحه قبل جسده، زار هولير والسليمانية ودهوك، تجول في مهاباد وسنندج، رأى الجبال والأنهار والحقول، كلها تناديه بلغته الأولى.
كان يحفظ أسماء المدن الكوردية القديمة، تلك التي محتها سياسات التتريك والتعريب، لكنه أبقاها حيّة في داخله، كأغانٍ سرية لا يعرفها إلا هو.

ومضت السنوات…
صار يبحث في غوغل عن خريطة ألمانيا.
يحاول أن يحفظ أسماء مقاطعاتها، لا شغفاً بالدرس ولا حباً بالامتحان، بل لأن جزءاً من جسده وروحه استقر هناك، لجأ إلى الأمان بعد أن أرهقته المطاردة.
صار يذاكر خرائط الغربة كما كان يذاكر خرائط الطفولة، لكن بعينين مثقلتين بالخذلان.

ومع ذلك… كلما مدَّ إصبعه على خريطة جديدة، كان قلبه يعود إلى الخريطة الأولى.
إلى الجبال التي لم تُمحَ من ذاكرته، إلى الوطن الذي لا يُنسى مهما أبعدته الغربة.
فكوردستان ليست مجرد خطوط على الورق، بل وطن محفور في الروح، يسكن في القلب حتى آخر العمر.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

كانت الورشة ساكنة، تشبه لحظة ما قبل العاصفة.

الضوء الأصفر المنبعث من المصباح الوحيد ينساب بخجل على ملامح رجلٍ أنهكه الشغف أكثر مما أنهكته الحياة. أمامه قالب معدني ينتظر أن يُسكب فيه الحلم، وأكواب وأدوات تتناثر كأنها جنود في معركة صامتة.

مدّ يده إلى البيدون الأول، حمله على كتفه بقوة، وسكبه في القالب كمن يسكب روحه…

صدر حديثاً عن منشورات رامينا في لندن كتاب “كلّ الأشياء تخلو من الفلسفة” للكاتب والباحث العراقيّ مشهد العلّاف الذي يستعيد معنى الفلسفة في أصلها الأعمق، باعتبارها يقظةً داخل العيش، واصغاءً إلى ما يتسرّب من صمت الوجود.

في هذا الكتاب تتقدّم الفلسفة كأثرٍ للحياة أكثر مما هي تأمّل فيها، وكأنّ الكاتب يعيد تعريفها من خلال تجربته الشخصية…

غريب ملا زلال

بعد إنقطاع طويل دام عقدين من الزمن تقريباً عاد التشكيلي إبراهيم بريمو إلى الساحة الفنية، ولكن هذه المرة بلغة مغايرة تماماً.

ولعل سبب غيابه يعود إلى أمرين كما يقول في أحد أحاديثه، الأول كونه إتجه إلى التصميم الإعلاني وغرق فيه، والثاني كون الساحة التشكيلية السورية كانت ممتلئة بالكثير من اللغط الفني.

وبعد صيام دام طويلاً…

ياسر بادلي

في عمله الروائي “قلعة الملح”، يسلّط الكاتب السوري ثائر الناشف الضوء على واحدة من أعقد الإشكاليات التي تواجه اللاجئ الشرق أوسطي في أوروبا: الهوية، والاندماج، وصراع الانتماء. بأسلوب سردي يزاوج بين التوثيق والرمزية، يغوص الناشف في تفاصيل الاغتراب النفسي والوجودي للاجئ، واضعًا القارئ أمام مرآة تعكس هشاشة الإنسان في مواجهة مجتمعات جديدة بثقافات مغايرة،…