مزكين حسكو تتنفس برئتي الكتابة والحلم

إبراهيم اليوسف

الكتابة البقاء

 لم تدخل مزكين حسكو عالم الكتابة كما حال من هو عابر في نزهة عابرة، بل اندفعت إليه كمن يلقي بنفسه في محرقة يومية، عبر معركة وجودية، حيث الكلمة ليست زينة ولا ترفاً، مادامت تملك كل شروط الجمال العالي: روحاً وحضوراً، لأن الكلمة في منظورها ليست إلا فعل انتماء كامل إلى لغة أرادت أن تحفظها حية، وأن تمنحها قوة الحضور في وجه كل محاولات الطمس. إذ كانت الكردية عندها أكثر من لسان، كانت هواءً تتنفسه وسماءً تحتمي بها وأرضاً تُعاد صياغتها في النصوص، حتى بدت كتابتها كجذر يرسخ في التربة كلما حاولت الرياح اقتلاعها. إنما ذلك الجذر لم يتشكل من سهولة العيش ولا من رخاوة الظروف، بل من صلابة امرأة أنجبها رحم قرية كردية. جميلة، مهمشة، فاختارت أن تواجه بالقصيدة ما يعجز عنه الجسد، وأن تكتب بالسرد ما يحاول التغييب أن يمحوه.

أجل، لم يكن أمام مزكين حسكو سوى أن تجعل من الأدب طريق مفردتها. صورها الشعرية. حكاياتها. أقاصيصها. أحلامها، إلى لجج الديمومة، وأن تترك وراءها، مع كل خطوة، أثرها. أثرها هي، بوهج خاص، لا على مقاعد المهرجانات الرخيصة ولا في مقاهي النخب المتهافتة، بل في عمق اللغة التي استضافت روحها. أجل، ظلّت أبعد ما يمكن أن تفرضه شاعرة صاحبة موقف عن المساومة، إذ لم تسوغ يوماً أن تتحول الكتابة إلى وسيلة صعود اجتماعي أو إلى جسر نحو منصة مصطنعة. ومن هنا فإن شخصيتها تمايزت بموقفها الرافض لكل ابتذال، حيث لم تُغوها دعوات متسللين إلى المشهد عبر رسائل قصيرة على منصات التواصل، ولا أغراها أن تكون رقماً في قائمة أسماء تُستعرض في قاعات هزيلة. لقد كانت أبية، كريمة، عصية على الإخضاع، تجعل من عزتها معياراً، ومن كرامتها حصناً لا يُخترق.

ولكل هذا فإن سيرتها مع الشعر لم تكن سيرة كتب توضع على رفوف المكتبات فحسب، بل كانت سيرة حياة متوهجة بالمقاومة. إذ طالما كتبت بين عمليتين جراحيتين، من ضمن سلسلة عمليات جراحية خضعت لها مكرهة، وهي تتشبث بمجاذيف النجاة، كما لو أنها تريد أن تربح الوقت من براثن التحدي العظيم، ودوّنت في أروقة المشفى قصائدها، كما لو أن الورق صار هو السرير الحقيقي الذي تستريح عليه. وهكذا فهي لم تسمح للهواء الملوث المتسلل إلى الرئة أن يصادر صوتها، بل واجهته، وهزمته في أكثر من معركة، بروح مقاتلة كردية، صانعة من الألم أداة توليد للشعر، ومن اليأس قوة لاستمرار الحلم. ومن هنا فإننا نرى أن الكتابة عندها لم تكن خياراً، بل قدراً حملته بشجاعة، حتى حين تراجع الجسد إلى آخر دركاته.

إذ إن مرضها لم يحجب عنها الحس الإنساني العميق، حيث ظلّت في أشد لحظات وجعها تحمل الآخرين في قلبها. ومن هنا فإن ما جرى قبل بضعة أيام يكشف جانباً يضيء روحها أكثر: إذ كانت في طريقها إلى هولندا لمناسبة عائلية، وقد همست في أذن رفيق دربها وابن عمها عائد حسكو، طالبة منه أن يتصل بخالها إبراهيم اليوسف ليسأل عن صحة لورين، زوجة ابنه أيهم، وليطمئنها على حالها، مبلّغاً سلامها الدافئ إليه، وتمنياتها للورين بالشفاء.

يا إلهي!

هذه مزكين التي لوظللت أكتب عنها مئة عام لما أوفيتها ما تستحقه من تقدير فرضته هي نفسها علي كما على سواي من المخلصين من حولها.

أجل، حتى وهي في مواجهة المرض، ظلّت قادرة على أن تضع الآخرين في صدارة همّها، كما لو أن الاطمئنان على صديقة مريضة هو شكل آخر من أشكال مقاومتها من أجل القصيدة والكلمة والوطن والحياة. وهكذا امتزجت إنسانيتها بنصوصها، حتى صار من الصعب التمييز بين ما هو شعر يخط على الورق، وما هو فعل حياة يتجسد في لحظة صغيرة كهذه، تلمع أكثر من قصيدة كاملة.

إنما الأهم أن حضورها ظلّ مشعاً بإنسانية صافية، حيث عرفها من اقترب منها كودودة، طيبة، نبيلة، محبة للآخرين بلا حساب. غير أن هذه المحبة لم تكن انسحاقاً، بل كانت قوة حقيقية تنبع من يقينها بأن الإنسان لا يُختصر في صراعات السوق الأدبي ولا في مساومات الكواليس. أجل، لقد أحبّت الناس، لكنها لم تُجامل على حساب موقفها، ولم تخفض رأسها أمام رخيص أو مبتذل. مدير مهرجان، وطيء، أو مشرف مؤتمر يدعو مقربين لا شأن لهم ببرنامج هذا الحدث، بل ظلت صوتاً عالياً يعلن رفضه لكل امتهان.

ومن هنا فإن الحديث عن مزكين حسكو ليس حديثاً عن مبدعة فقط، بل عن تجربة كاملة جعلت من الكردية فضاءً لصياغة الحلم، ولتجديد اللغة، ولابتكار صور لم يألفها القراء من قبل. إذ كانت مجددة لغوياً، لا تستسلم للبلاغة الجاهزة، ولا تكرر قوالب الآخرين، بل تنحت جملها كما لو أنها تعيد اختراع المفردات والصور وعمارات الجمال، لتجعل من النص فضاءً شخصياً لا يشبه إلا نفسها. وهكذا صار حضورها في المشهد علامة فارقة، إذ تمكنت من أن تحافظ على أصالة لسانها، وأن تبرهن أن الكردية قادرة على أن تحتمل التجريب والتجديد معاً.

تأسيساً على ذلك، فإن أربعة عشر كتاباً بين الشعر والسرد لم تكن مجرد رصيد عددي، بل كانت شواهد على مسار يتدرج من الحلم إلى المقاومة، ومن البوح الشخصي إلى الموقف الجماعي. إنما لم ترد يوماً أن تُحسب على خانة الإنجاز الكمي، بل كانت ترى أن الكتابة لا تقاس بعدد العناوين، بل بقدرتها على أن تظل شاهدة على زمن، ومؤسسة لجمالية مختلفة. وهكذا فإن إرثها لا يُقرأ كحصيلة مطبوعة فحسب، بل كصوت استمرارية، وكقوة دافعة لأجيال لاحقة ستجد في نصوصها ما يعيدها إلى جذور اللغة.

إذ إن محطة مرضها لم تكن سوى مرآة أخرى لصلابتها، حيث قاومت وتقاوم على سرير الشفاء كما لو أنها تخوض أعظم معركة في سبيل جمال الروح والقصيدة والحياة.

وعلى هذا النحو، ها نجد نرى مزكينتنا تواظب على الكتابة حتى هذه اللحظة كي تحافظ على معادلة الروح الجسد الذي حاول أن يخذلها، مصممة على استرداد كل شيء كما كان، لتثبت أن الإبداع ليس ترفاً يُمارس في أوقات الراحة، بل هو جوهر الوجود ذاته. وهكذا فإنها ليست مجرد أديبة، بل مقاتلة في ساحة اللغة، ساردة حالمة، شاعرة تعرف أن الحلم لا يتوقف مهما أمعن الألم في فتكه وغدره.

ومن هنا نرى أن صورتها في الذاكرة لن تُختصر في هذا الألم، بل في بنية هندسة نصها الإبداعي والحلمي. كي يدرك جميعهن أنها ولدت كي تكتب. كي تشتعل لغة، وإبداعاً.

فها هي تجعل  بإصرارها، وجبروت جمال روحها، ومفردتها، من سيرة الألم نفسه نصاً آخر يليق بشجاعة المبدعين.  ما جعلنا جميعاً نقر بأن مزكين حسكو شاهدة على أن الكتابة يمكن أن تكون معادل السيرورة والصيرورة، أن تكون فعل المقاومة. أن تكون المقاومة ذاتها، وأن اللغة يمكن أن تتحول إلى حصن وقلعة يواجه المبدع من خلالهما التحديات مهما تعاظمت. أجل، هذه هي صورتها الأجمل: امرأة كتبت وتكتب وستظل تكتب لتبقى، وها هي الآن قد جمعتنا معاً في ندوة افتراضية بل واقعية مفتوحة، لأنها تكتب وتبدع!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

أعلنت دار الخياط – واشنطن عن صدور رواية جديدة للكاتب والباحث السوري مازن عرفة بعنوان «نزوة الاحتمالات والظلال»، لتضاف إلى سلسلة أعماله الأدبية التي تجمع بين العمق الفكري والخيال الجامح، وتفتح أفقاً جديداً في السرد العربي المعاصر.

وتطرح الرواية، التي جاءت في 190 صفحة من القطع الوسط، عالماً غرائبياً، تتقاطع فيه نزوات الطغاة مع رغبات الآلهة،…

غريب ملا زلال

أحمد الصوفي ابن حمص يلخص في تجربته الفنية الخصبة مقولة ‘الفن رؤيا جمالية وبدائل لفساد الروح’، وهو كثير الإنتماء إلى الضوء الذي يحافظ على الحركات الملونة ليزرع اسئلة محاطة بمحاولات إعادة نفسه من جديد.

يقول أحمد الصوفي (حمص 1969) في إحدى مقابلاته : “الفن رؤيا جمالية وبدائل لفساد الروح”، وهذا القول يكاد ينبض في…

عبد الستار نورعلي

في الليلْ

حينَ يداهمُ رأسَك صراعُ الذِّكرياتْ

على فراشٍ مارجٍ مِنْ قلق

تُلقي رحالَكَ

في ميدانِ صراعِ الأضداد

حيث السَّاحةُ حُبلى

بالمعاركِ الدُّونكيشوتيةِ المطبوخة

على نارٍ هادئة

في طواحينِ الهواء التي تدور

بالمقلوبِ (المطلوبِ إثباتُه)

فيومَ قامَ الرَّفيقُ ماوتسي تونغ

بثورةِ الألفِ ميل

كانتِ الإمبرياليةُ نمراً..

(مِنْ ورق)

بأسنانٍ مِنَ القنابلِ الذَّرية

ومخالبَ مِنَ الاستراتيجياتِ الدِّيناميتية

المدروسةِ بعنايةٍ مُركَّزَة،

وليستْ بالعنايةِ المُركَّزة

كما اليوم،

على طاولته (الرفيق ماو) اليوم

يلعبُ بنا الشّطرنج

فوق ذرى…

حاوره: إدريس سالم

إن رواية «هروب نحو القمّة»، إذا قُرِأت بعمق، كشفت أن هذا الهروب ليس مجرّد حركة جسدية، بل هو رحلة وعي. كلّ خطوة في الطريق هي اختبار للذات، تكشف قوّتها وهشاشتها في آنٍ واحد.

 

ليس الحوار مع أحمد الزاويتي وقوفاً عند حدود رواية «هروب نحو القمّة» فحسب، بل هو انفتاح على أسئلة الوجود ذاتها. إذ…