ماهين شيخاني
الآن… هي هناك، في المطار، في دولة الأردن. لا أعلم إن كان مطار الملكة علياء أم غيره، فما قيمة الأسماء حين تضيع منّا الأوطان والأحبة..؟. لحظات فقط وستكون داخل الطائرة، تحلّق بعيداً عن ترابها، عن الدار التي شهدت خطواتها الأولى، عن كل ركن كنت أزيّنه بابتسامتها الصغيرة.
أنا وحدي الآن، حارس دموعها ومخبأ أسرارها. لم يرف لي جفن منذ ليلة البارحة، كأن النوم هجرني احتراماً لفاجعة الوداع. عشت الليل كلّه في حوار صامت معها، أستعيد ملامح طفولتها، ضحكاتها المتقطّعة، بكاءها الأول بعد غياب والدتها الراحلة. كم حاولت أن أكون الأب والأم معاً، أن أملأ الفراغ المستحيل، أن أضمّد الجرح الذي تركه الموت في قلبها الصغير.
لكن، أيها القدر، كيف يودّع أب ابنته دون مرافقتها حتى ..؟. كيف يسلّمها لسماء غريبة وهو يدرك أنّ نصفها الآخر ـ أمها ـ غائب تحت التراب..؟. أي جناحين سيحملانها بعيداً عنّا، وهي بالكاد اعتادت على حضني..؟.
كنت أحاول أن أبدو صلباً أمامها، أن أخفي انكساري، لكن المشاعر الجياشة غلبتني. لحظة أن ارتفع صوت عزف البزق من هاتفي ، يعزف لحن راحوا الغوالي… يا دنيا… انهمرت دموعي بلا استئذان. شعرت أن الأغنية كُتبت لي وحدي، لألمي وحدي.
يا دنيا، خذي من عمري ما شئتِ، فقط أعديها إليّ سالمة. خذي مني قوتي ورجولتي، لكن لا تسرقي منّي ما تبقّى من أمل. إنها فلذة كبدي، آخر ما أبقته زوجتي الراحلة بين يديّ، ذكرى حيّة منها، صورة تمشي وتتكلم وتضحك وتبكي. كيف لي أن أحتمل غيابها أيضاً..؟.
وداعكِ يا ابنتي ليس كأي وداع، إنه وداع لأحلامي الصغيرة التي خبّأتها لكِ، ووداع لأمنياتي التي لم تكتمل. خذي معك دعائي حيثما ذهبتِ، ولا تنسي أنّ وراءك أباً عاش عمره ليكون لكِ وطناً حين ضاقت بكِ الأوطان.
دمعة الوداع اليوم ليست نهاية الحكاية، بل بداية امتحان جديد للحب والصبر. وسأظلّ أنتظر، أفتح لكِ قلبي كلما رجعتِ، وأضيء لكِ شمعة أمّك الراحلة، كي تعرفي أنّكِ لم تكوني يوماً يتيمة، بل كنتِ محاطةً بحبّ مضاعف، بحنين أبٍ يعجز عن التعبير إلا بالبكاء.