غريب ملا زلال
رسم ستار علي ( 1957_2023 ) لوحة كوباني في ديار بكر /آمد عام 2015 ضمن مهرجان فني تشكيلي كردي كبير شارك فيه أكثر من مائتين فنانة و فنان ، و كان ستار علي من بينهم ، و كتبت هذه المادة حينها ، أنشرها الآن و نحن ندخل الذكرى الثانية على رحيله .
أهي حماسة الفنان أن يلجأ إلى الأسود و الأبيض , فيفرغ ما يضج في دواخله , هكذا فعل بيكاسو حين قصفت غرينيكا , وها هو ستار يفعلها أيضاً حين يرى بأم عينه كوباني وهي تدمر تماماً على أيدي طغاة , أهي حماسة فنان تدفعه ريشته و ألوانه إلى خلق حلم فني سنخشع له فيما بعد طويلاً , كما نخشع الآن لغرينيكا بيكاسو , دون أن ينفذ ستار من ملاحقة أهم الإستلهامات له , شكلاً و مضموناً , و بالتزامن مع ترك تأثير على العديد من التقنيات التي اعتمدها , أم هي إقرار ضمني بأن الوجع الإنساني واحد أينما كان , و بأن الخراب والدمار والظلم واحد أينما كان , فغرينيكا هي كوباني وكوباني هي غرينيكا , أم هي لحظات إبداعية يجهلها حتى الفنان نفسه , فلا يجد نفسه إلا وسط مواقف تدفع بريشته إلى الإختيار الأنسب من الحس , , إختيار الأهم من اللون وما يناسب الحالة , أم كل ذلك جمعاً مشكلاً نهراً دافقاً لخلق مأمن فني فيه يمارس الفنان خضوعه الجميل بصورة مرئية ,
ما يهم من كل ذلك أن ستار لا ينفر من الواقع كموضوع فهو بعيش تحت تأثير سلسلة من الإنفعالات التي ترسم بدورها له معطى جمالي آخر , فهو يزامن ما بين الحدث وما بين الفن كحالة خلق جميل , و بالطبع بالتزامن مع أحداث التجربة الذاتية له غير القابلة للتجاهل , فستار لا يستطيع أن يحجب تلك التجربة مع ما فيها من خصائص منفتحة على أساليب و تقنيات و أدوات تعبير جديدة , بدءاً من خلق التفاعل بين الترابطات الزمنية في سياق الحاضر مع التركيز على نبرة تكريس مرونة التعامل مع سطح العمل , إلى الإعتماد على المونتاج المتوازي ما بين الأسود و الأبيض عبر بناء تكويني محكم وفق إتفاق غير مرئي بين القيم الإبداعية الرفيعة التي يحققها ستار , و بين الأدوات التي يتقن في ممارستها يإحتراف هي محصلة معرفة وتجربة غنيتين , فثمة قرابة بين الإثنين , القيم و الأدوات ومن السذاجة التفكير في فكهما عن بعضهما البعض , و لعل نشوء حالة من الوعي والتي هي بالتأكيد ليست مصادفة بل هي نتيجة تراكم قيمي زمني , يمنح الدلالة بالإنطلاق المعتمد على العلاقة المتبادلة ما بين المسار كحالة بناء وتعمير , و الملامح كإضافات تعبيرية للإستلهام .
وما يجدر الإهتمام به عند ستار هو سعيه الدؤوب في خلق إتجاه خاص به , إتجاه يأخذه إلى محاكاة ثقافات أخرى , خاصة في العلاقة مع الحالة كقيمة فنية أولاً و تاريخية ثانياً , ثقافات تقذفه إلى تنوع مرموق ومرغوب تماماً مع النظر بعين الإعتبار تنوع وغنى تجربته , فهو منذ زمن ينظم مشروعاً في غاية الصعوبة , و التعقد , الهدف منه هو بأن المرادف للوصول إلى قمة أفرست الفنية تتطلب تجاوز كل تلك البرمودات , مع أخذ الإعتبار لعواطفه الجياشة التي ستوفر له مسلكاً جميلاً في إنجاز خصوصية ستحمله إلى أفق فني به سيخترق الحدود بأريحية عالية .
فستار حين يختار الأسود و الأبيض فهو سلفاً يعلن بأنه قادر أن يعوم حتى في اليابسة , و هذا ما يمكنه في الإجابة على إشارات إستفهام قد ترسم حوله , وهذا ما يقتضي منه أيضاً القيام بمبادرات فيرمي بالأحمر و الأصفر و الأخضر ولو رشاً خفيفاً , و هذا ما يجعله يخلق للمتلقي فسحة للتأمل , وللعمل فسحة للهوية تحمل كل مواصفات الكائن : إسم الميلاد و تاريخ الولادة ألى آخر ما هنالك من معلومات رسمت سابقاً بالدم , فسحة يجعلك تعيد التفكير فيها مطولاً فنياً و و طنياً وتاريخياً .
و رغم يقيني أن الموضوع الكبير لا يخلق عملاً كبيراً , بل قد يتحول إلى عبء على كاهل الفنان المقتدر , والحالة هنا مماثلة عند ستار , فما جرى في كوباني تهز النفوس والعروش معاً , فهو بحق غرينيكا العصر وهذا ما يجعل من مهمة ستار أكثر تعقيداً , و أكثر مسؤولية , ولهذا لم يبق ستار في المركز بل قام بلملمة الحواف ليضمها إلى إنجاز فني رفيع جداً , و إذا كان الكاتب فرح أنطون يقول في كتابه الرواية : ( نحن في الشرق محرومون من رواية المبادئ و الأفكار , لعدم رواجها , مما سيد رواية التفكه على الساحة . ) إلا أن الموضوع مختلف في الفن التشكيلي و خاصة هنا في عمل ستار هذا , فنحن أمام عمل كل ما فيه بصرخ بمبادئ تصر على الحياة , و بلأفكار تزن جبلاً , ولهذا يبلغ الفنان ستار و بإنجاز و وعي محطة لن تكون الأخيرة له و لكنها ستكون هامة لتجربته الفنية , و قد تشكل منعطفاً ذهبياً لتجربته الفنية .
15_03_2015