في زمنٍ تتكسر فيه الأصوات على صخور الغياب، وتضيع فيه الكلمات بين ضجيج المدن وأنين الأرواح، يطل علينا صوتٌ شعريّ استثنائي، كنسمةٍ تهبط من علياء الروح لتفتح لنا أبواب السماء. إنه ديوان “أَنْثَى عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيحِ” للشاعرة أفين بوزان، حيث تتجلى الأنوثة ككائنٍ أسطوري يطير فوق جغرافيا الألم والحنين، حاملاً رسائل الضوء، ونافخاً في رماد العتمة جمراً جديداً للحياة.
هنا، لا تكون المرأة جسداً يمر، بل روحاً تسكن الريح، تتحول إلى جناحٍ يحلق في فضاءات المعنى، إلى لحنٍ يعانق البحر، وإلى وردةٍ تنمو على حواف العاصفة. كلماتها ليست أبياتاً جامدة، بل أمواجاً تعصف بالذاكرة، وطيوراً تعود من منافيها البعيدة لتغني للإنسان، للحب، وللحياة.
في هذا الديوان، تسير القارئة والقارئ على دروبٍ مفروشة بدمعٍ شفيف وأملٍ لا يشيخ. يتجاور فيه البحر مع الجبل، والغياب مع الانتظار، والخذلان مع يقين العودة. كل قصيدة نافذةٌ مفتوحة على اتساعها، تطل منها الروح الأنثوية وهي تصوغ ميثاقها الخاص مع الوجود: أن تبقى الكلمة بيتاً، والقصيدة وطناً، والريحَ جناحين للحرية.
إن أفين بوزان لا تكتب الشعر فحسب، بل تنحته من لحمها ودمها، من طفولةٍ مبللة بملح البحر، ومن ذاكرةٍ محروسةٍ بلهيب السؤال. ولعل ديوانها هذا ليس مجرد نصوصٍ تقرأ، بل رحلةٌ تعاش، وطقسٌ شعائريّ تتطهر فيه الروح من ثقل العدم، لتعود أكثر نقاءً، وأكثر قدرةً على الحلم.
فليكن “أَنْثَى عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيحِ” بوابتكم إلى عوالمٍ جديدة من الشعر، حيث تتعانق الأسطورة بالواقع، والأنثى بالريح، والكلمة بالخلود.
أفين بين السطور
أفين ليست اسماً عابراً في سجل الكلمات، بل جرحٌ شفيفٌ يتفتح على بياض الورق؛ ابنةُ الريح التي ولدت من أبوين كورديين، تحمل في ملامحها رائحة السهول والجبال، وفي صوتها صدى المدن التي أحرقتها الحروب ولم تطفئ جذوة روحها. ولدت في دمشق، لكن قلبها ظل معلقاً بكوباني، المدينة التي نهضت من رمادها كطائرٍ أسطوري، لتعلّم العالم أنّ الكرامة أقوى من الخراب.
في طفولتها، كان الغياب يطرق أبوابها باكراً، وكانت الحرب تلون تفاصيلها بالرماد. رأت كيف يتحول البيت إلى ذكرى، والذاكرة إلى أنقاض، والوطن إلى قصيدةٍ تبحث عن مأوى. غير أنها لم تنحنِ، بل حملت قسوة التجربة على كتفيها، وحولتها إلى أجنحةٍ من حروف. صارت الكتابة بيتها الحقيقي، وصار الشعر وطنها البديل؛ وطنٌ لا تغزوه الجيوش، ولا تشرده الرياح.
في قصائد أفين يمتزج أنين الأرض بنبض المرأة، ويغدو الحرفُ دمعةً وضحكةً في آنٍ واحد. تتكلم بلسان المدن التي نزفت، وتبكي بدموع الأطفال الذين احتموا تحت الركام، وتغني بجرأة امرأةٍ آمنت أنّ الكلمة قادرة على فضح العتمة وإشعال قناديل الأمل. فهي لا تكتب الشعر من أجل الجمال وحده، بل لتجعل من الألم جمالاً، ومن الفقد نافذةً، ومن الغربة جسراً، ومن المنفى وعداً بعودةٍ مؤجّلة.
أفين ابنة كوباني، وابنة كل مدينةٍ جريحة، وابنة كل روحٍ لم تجد بعد بيتها. هي الشاعرة التي لم تسمح لقلبها بالاستسلام، بل أودعت فيه أمانة الشعر ليبقى يقاوم ويضيء. نصوصها مرآةٌ لمن ضاع، ووطنٌ لمن لم يجد أرضه، وحلمٌ معلّقٌ على جناح ريحٍ لا يعرف الانكسار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا مقطع من القصيدة
أنثى الريح
أنا أنثى الريح ..
أولدُ كلَّ صباحٍ من صمتِ الغيوم
وأهدي وجهي للشمس كي ترمِّمَ شقوقي
وأتركُ خصائلي نهراً
يهيمُ في أوديةِ الأفق.
أنا ابنةُ السراب ..
أحملُ جرحَ الرملِ في راحتي
وأُخبِّئُ في صوتي ارتعاشةَ نايٍ قديم
كأنني مرآةُ الزمان
تعكسُ ما اندثرَ من الحكايات
وتحفظ في صدرها ما تكسَّرَ من الأناشيد.
كلّما مشيتُ
تطايرَ حولي غبارُ الأسئلة:
من أيِّ فصولٍ جئتِ؟
هل كنتِ ظِلّاً أم ناراً؟
هل كنتِ أنثى من طينٍ
أم قصيدةً هاربةً من دفترِ شاعر؟
أنا أنثى الريح
أدخلُ المدنَ كغريبةٍ
أفتحُ أبوابها بكفٍّ من هواء
وأتركُ على جدرانها أثرَ مرورٍ
لا يرى إلا بالحنين.
==========
لقراءة الديوان بالكامل، انقر على الرابط ادناه: