سيرة ذاتية تتحول إلى نصوص نابضة في “كرات الذكريات”

صدر حديثاً عن منشورات رامينا في لندن كتاب “كُرات الذكريات” للكاتبة السورية نادين باخص، وهو نصّ يستند إلى الذاكرة كأرض أولى للكتابة، ويحوّل لحظات الحياة ومفارقاتها إلى كرات صغيرة تتدحرج في زوايا القلب والوعي.

تكتب نادين باخص نصوصها بوعي حادّ بأن ما يتساقط من التجارب قد يندثر إن لم يُسجَّل، فتجعل من الكتاب صندوقاً مفتوحاً يحوي ما عاشته بين حمص وأبوظبي ودبي ومونتريال، وما حملته هذه المدن من وجع وحنين، ومن لحظات مضيئة وأخرى دامية.

النصوص تتحرك في فضاء هجين بين السيرة واليوميات والمقالة المفتوحة، فتستعيد الكاتبة زفافها الذي تزامن مع بدايات الثورة السورية في أيار 2011، لتجعل من الحكاية الشخصية مرآة لانفجار اللحظة الوطنية. ومن ثمّ تكتب عن التنقّل في عدد من المدن، حيث يتحوّل البيت إلى حقيبة مؤقتة، قبل أن تصل إلى كندا لتواجه عالماً جديداً بعاداته ولغاته وقسوته.

كل خروج في هذا الكتاب يتجاوز مغادرة المكان إلى مغادرة طبقة من الذات، وكأنّ فعل الرحيل يتكرّر بوصفه جرحاً لا يلتئم، لكنه يفتح المجال للتأمل في معنى الانتماء.

في كُرات الذكريات لا تقتصر الكتابة على سيرة الذات وحدها، بل تنفتح على الآخرين بوصفهم شركاء في تكوين الذاكرة: خالد خليفة يطلّ عبر وصاياه الأخيرة، وسماح إدريس يحضر في رحيله، فيما تتردّد أصداء الأغنيات العربية التي صنعت وجدان جيل كامل، من أم كلثوم وعبد الوهاب إلى هاني شاكر وأنغام. وحتى الدراما التلفزيونية تدخل كعنصر مؤسس في الهوية، لتكشف كيف تلتقي الذكريات الفردية مع الثقافة الشعبية في صياغة وعي ممتد.

الكتاب يتقدّم بمقاطع قصيرة نسبياً، لكنها مكثفة، مكتوبة من موقع التجربة المباشرة، لا من موقع السارد المتعالي. النصوص تنبض بالصدق والعفوية، وتستحضر تفاصيل قد تبدو صغيرة، لكنها تحمل ثقل الذاكرة: لقاءات عابرة، أصوات الجارات، رائحة طعام حمصي في مدينة غريبة، لحظة ولادة في مستشفى كندي، أو وداع جار في قارة بعيدة. كل ذلك ينسج شبكة من الصور التي تعكس كيف تتكوّن هوية المنفى على وقع الغياب المتكرر.

اختيار منشورات رامينا لهذا الكتاب يأتي ضمن مشروعها لإبراز أصوات الكتّاب الذين يكتبون من قلب التجربة المزدوجة: تجربة الاقتلاع وتجربة إعادة البناء. فإلى جانب أهميته كسيرة شخصية، يحمل “كُرات الذكريات” بعداً توثيقياً للأزمنة التي عاشها جيل كامل، ويقدّم مادة أدبية تؤكد أنّ الذاكرة ليست حنيناً فحسب، وإنما كتابة مقاومة للنسيان، وبحث دائم عن معنى العيش وسط المنفى.

جدير بالكدر أن الكتاب يقع في ٨٦ صفحة من القطع الوسط، ولوحة الغلاف للفنانة التشكيلية الكردية السورية جنكيمان عمر.

ممّا جاء في كلمة الغلاف:

يعدّ هذا الكتاب مساهمةً ناضجةً في أدب السيرة الذاتية الحديثة، مكتوباً بصوت نسويّ واعٍ لتجربته، وبلغة تدرك جيّداً أنّ التوثيق لا يتطلّب بطولات، وأنّ الألم لا يحتاج تكلّفاً ليكون مقنعاً ومؤثّراً.

“كرات الذكريات” هو أقرب إلى حوار داخليّ ممتدّ، تتقاطع فيه اليوميات مع التحوّلات الوجودية، وتتنقّل الكاتبة خلاله بين أمكنة متباعدة من حيث الجغرافيا، متجاورة من حيث الأثر النفسيّ: حمص، أبوظبي، مونتريال.

تكتب نادين باخص نصوصها دون وسائط بلاغية تفصلها عن القارئ، فكِتابها يُقْرأ كما يُصغى لاعتراف حقيقيّ، حيث الجملة ليست عرضاً لفكرة، وإنّما حاملاً لارتجافة ما، اللغة فيه تتقدّم ببطء تأمّلي، وتحمل طبقات متراكبة من الشعور، الانتماء والاقتلاع، الأمومة والمنفى، الهشاشة والقوّة، الجسد كأرشيف، والكتابة كخيط نجاة.

ما يميّز هذا العمل أنّه لا ينحو منحى التوثيق الخارجي للأحداث، إنّما يعيد تشكيل الذات عبرها، ويصوغها كهوية متغيّرة تتقاطع مع المنفى كاختبار دائم للذاكرة واللغة والانتماء، فالنصوص تكتب كما تتسرّب الدموع في عزلة الليل، دون نداء، دون استغاثة. كراتٌ صغيرة تتسلّل من الذاكرة إلى الورق، بعضها بقي خامداً لسنوات، وبعضها خرج من جرح لم يلتئم بعد.

هذا الكتاب فعل تذكّر مقاوم للنسيان، متحرّر من البنية الخطية الصارمة، يقيم في الهامش، ويستحضر العابر، وينضج التفاصيل التي يغفلها السرد التقليديّ، وهو عملٌ صادق في ألمه، مخلصٌ لتجربته، مفتوحٌ على قارئ لا يخشى أن يرى ذاته في هشاشة الآخرين.

تعريف بالمؤلفة:

 كاتبة سوريّة من مدينة حمص، تكتب في حقول عدّة منذ عام 2005. لها رواية وحيدة بعنوان “وانتهت بنقطة” وثلاث مجموعات شعر، ودراسة نقدية بعنوان “الدوائر المتحدة المركز”. نشرت العديد من الأبحاث النقدية والدراسات الأدبية في صحف ومجلات عربية. تخصّصت في الكتابة للطفل منذ عام 2013، وأسست في نهاية عام 2024 دار البومة للنشر والتوزيع المتخصّصة بكتب الأطفال.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

سيماڤ خالد محمد

مررتُ ذات مرةٍ بسؤالٍ على إحدى صفحات التواصل الإجتماعي، بدا بسيطاً في صياغته لكنه كان عميقاً في معناه، سؤالاً لا يُطرح ليُجاب عنه سريعاً بل ليبقى معلّقاً في الداخل: لماذا نولد بوجوهٍ، ولماذا نولد بقلوب؟

لم أبحث عن إجابة جاهزة تركت السؤال يقودني بهدوء إلى الذاكرة، إلى الإحساس الأول…

خالد بهلوي

بحضور جمهور غفير من الأخوات والإخوة الكتّاب والشعراء والسياسيين والمثقفين المهتمين بالأدب والشعر، أقام الاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الكُرد في سوريا واتحاد كردستان سوريا، بتاريخ 20 كانون الأول 2025، في مدينة إيسين الألمانية، ندوةً بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيل الأديب الشاعر سيدايي ملا أحمد نامي.

أدار الجلسة الأخ علوان شفان، ثم ألقى كلمة الاتحاد الأخ/ …

فراس حج محمد| فلسطين

لست أدري كم سيلزمني لأعبر شطّها الممتدّ إيغالاً إلى الصحراءْ
من سيمسك بي لأرى طريقي؟
من سيسقيني قطرة ماء في حرّ ذاك الصيف؟
من سيوصلني إلى شجرة الحور والطلع والنخلة السامقةْ؟
من سيطعمني رطباً على سغب طويلْ؟
من سيقرأ في ذاك الخراب ملامحي؟
من سيمحو آخر حرف من حروفي الأربعةْ؟
أو سيمحو أوّل حرفها لتصير مثل الزوبعة؟
من سيفتح آخر…

حاوره: طه خلو

 

يدخل آلان كيكاني الرواية من منطقة التماس الحاد بين المعرفة والألم، حيث تتحوّل التجربة الإنسانية، كما عاينها طبيباً وكاتباً، إلى سؤال مفتوح على النفس والمجتمع. من هذا الحدّ الفاصل بين ما يُختبر في الممارسة الطبية وما يترسّب في الذاكرة، تتشكّل كتابته بوصفها مسار تأمل طويل في هشاشة الإنسان، وفي التصدّعات التي تتركها الصدمة،…