ماهين شيخاني
كان باروننا الكوردي أشبه بظلّ ضاحك في هذا المكان الكئيب. رجل قصير القامة، نحيف الجسد، لكن أناقته لا تشي بالفقر الذي يحيط بنا. دائم الابتسامة، خفيف الروح، سريع النكتة، يعرف كيف يسرق الضحك من بين أنياب المأساة. علاقاته متينة مع الجميع، وبالأخص مع الإخوة المسيحيين الذين اتخذهم أصدقاء مقرّبين.
زيّه لا يخطئه أحد: قميص أبيض أو أزرق سماوي، بنطال كحلي أو أسود، وعلى رأسه شال أبيض يتوّجه بعقال، كأنه يستعيد هيبة أيامٍ بعيدة.
حين يسدل المساء ستاره، وتغرق الخيام في صمتٍ يقطعه نباح كلاب المخيم، يبدأ بارون طقسه الخاص؛ يختفي قليلاً، ثم يعود وفي عينيه بريق الشراب الذي يدفئ برد الليالي.
كنتُ عائداً من مركز التوزيع، حين لمحته يسير بمحاذاة الطريق الترابي المؤدّي إلى الخيام. بدا طيفه مألوفًا… آه، إنه هو، بارون ذاته..!. توقفتُ بانتظاره. وحين اقترب، مازحته:
– “ها معلم بارون..!. أضاعك الطريق أم طردتك المدام من الخيمة..؟.”
ضحك حتى بدت أسنانه البيضاء في العتمة، وقال:
– ” لا يا رجل… ذاهب لزيارة أبو صخر. ما رأيك ترافقني..؟. الليل ما زال طريًّا، فلنسهر عنده قليلاً، ثم نعود إلى… سجوننا..!.”
قالها وهو يغمز بعينه، فابتسمتُ رغم تعبي، ومضينا معًا نفتّش عن خيمة أبي صخر وسط متاهة الأرقام والحبال.
كانت الخيمة هناك، وحين دخلنا استقبلتنا أم صخر بوجهٍ دافئ، رغم قسوة الحياة. عرفتُها منذ زمن؛ أخت مناضلين، عائلة دفعت من عمرها للحرية. لم يبقَ في الخيمة سوى أبو صخر وزوجته؛ أبناؤهما تفرّقوا بين المنافي الأوروبية، وبناتهما استقرّ بهنّ الزواج بعيدًا عن هذه الأرض.
جلسنا على الأرض، وتبادلنا أحاديث الحرب والسياسة والذكريات. قطعتُ السكون بابتسامةٍ ماكرة:
– ” أتدرون..؟. البارحة زارنا السيد مسرور بارزاني بنفسه..!.”
ارتفعت عيون أم صخر بدهشة:
– ” سمعنا… لكننا لم نستطع السير لتلك المسافة. يا ليتنا رأيناه ولو من بعيد.”
ضحكتُ وأشرتُ إلى بارون:
– ” لكن العم بارون رآه ، ومع السيدة زوجته أيضًا..!. بل الأنكى من ذلك… كان يناديها بصوتٍ عالٍ: أم سيبان، أسرعي ، السيد الرئيس مسرور عندنا..!.”
شهقت أم صخر وضربت كفًّا بكفّ :
– ” أبو سيبان..؟. من كان يتّهم الجماعة قبل أشهر… الآن صار يناديه السيد الرئيس..؟!. عجيب..!. من متى صرت تحبّه يا بارون..؟. من يوم صرت تركض وراءه..؟.”
قهقهتُ وأنا أتابع:
– ” يا مصلحجي..!.”
ارتبك بارون واحمرّ وجهه، ثم رفع يديه مستسلمًا للضحك:
– ” فضحتني والله..!. لن أخلص من لسان أم صخر بعد اليوم. لكن اسمعوا… أنا من الأوائل الذين انتسبوا للبارتي في ديارنا. ماذا أتى بكم إلى هنا، أما أنا… فقصتي طويلة..!.”
ترك كلماته معلّقة في الهواء، كأنّه يهيّئنا لحكايةٍ أخرى… وربما لفصلٍ جديد من لعبة الأقدار.
اعترافات بارون… تحت سقف الخيمة
كان الليل قد تمدّد على المخيم مثل بطانيةٍ قديمة، مثقوبة الثقوب، تتسرّب منها برودة الريح. داخل خيمة أبي صخر، اشتعل الضوء الخافت من لمبة يتيمة تتدلّى مثل أملٍ يتشبّث بخيط كهرباء متعب. جلسنا نحن الأربعة في دائرة صغيرة: أنا، بارون، أبو صخر، وأم صخر، التي لم تكفّ عن ترتيب أطراف السجادة كلّما اشتدّ النقاش.
أشعل بارون سيجارة، وأخذ نفسًا عميقًا حتى بدت النار كجمرٍ في عتمة الخيمة. زفر الدخان ببطء، ثم ابتسم ابتسامةً أعرفها جيّدًا؛ تلك التي تسبق عادةً اعترافًا خطيرًا أو كذبة أنيقة.
قال وهو يمدّ ساقيه بثقة الملوك:
– ” تظنّون أنني هنا مثل بقيّة الناس..؟. لا يا أصدقائي… قصّتي لو رواها كاتب لأصبحت رواية تُقرأ في معارض الكتب.”
ضحكت أم صخر:
– ” يا أخي، كلّنا روايات الآن. من منا ليس كتابًا ممزّق الصفحات..؟.”
هزّ بارون رأسه، ثم أردف:
– ” لكنني… أنا بارون..!. كان لي شأنٌ في قامشلو. كنتُ لا أمشي في السوق إلا والناس ترفع قبّعاتها احتراماً لي.”
تبادلنا النظرات. أعرف هذه النبرة جيّداً، نبرة رجلٍ يحبّ أن يطلي ماضيه بذهب الذكريات.
سألته مازحاً:
– ” كنتَ مختارًا أم وزيراً في الظل..؟.”
قهقه بارون حتى ارتجّت الخيمة:
– ” مختار..؟!. لا يا صاحبي… كنتُ أكبر من مختار وأصغر من وزير. كنتُ صانع العرائس الذي يحرّك خيوط اللعبة. كنتُ أملك أسراراً لا يعرفها إلا الله، وأصدقاء في كلّ الأحزاب. حتى الأمن كان يبتسم لي في الشارع.”
أبو صخر، الذي كان حتى الآن صامتاً كجدار، تدخّل:
– ” وماذا حدث لك يا بارون..؟. كيف انتهيت هنا… تنتظر ربطة خبز مثلنا..؟.”
ساد الصمت لحظة ، ثم انحنى بارون إلى الأمام، صوته انخفض حتى صار أقرب إلى همس المؤامرات:
– ” لأنني صدّقتُهم. صدّقتُ أن للبارون مكانًا لا تطاله يد الفقر. لكنني كنتُ مجرد ورقة في مهبّ الريح. يوم تغيّر اتجاه الريح، سقطتُ مثل أوراق الخريف.”
انطفأت ابتسامته للحظة ، رأيت في عينيه ظلّ انكسارٍ عميق، قبل أن يخفيه بضحكة مصطنعة:
– ” لكنني بارون… والبارونات لا يموتون بسهولة. هنا أيضًا سأبني عرشاً صغيراً… ولو كان من أقمشة الخيمة..!.”
صفّقت له أم صخر ساخرة:
– ” يا رجل، هنا لا مكان للعرش. هنا نحن جميعاً رعيّة للجوع والصقيع..!.”
ارتشف بارون آخر نفسٍ من سيجارته، ثم رماها في علبة فارغة، وأجاب بنبرةٍ فيها مزيج من الكبرياء واليأس:
– ” ومن قال إن العروش تحتاج قصوراً..؟. أحياناً يكفيك كرسيّ بلاستيكيّ… واثنان يصفّقان لك، لتشعر أنّك ما زلت حيّاً..”
في تلك اللحظة، أدركتُ أنّ بارون ليس مجرد مهرّج المخيم الذي يضحكنا. إنه مرآةٌ لنا جميعًا: نحن الذين كنّا نملك بيوتاً وأحلاماً، فصرنا نقتسم الخبز والخيبة تحت سقفٍ من قماش.
قبل أن نغادر، رفع بارون رأسه وقال لي وهو يغمز بعينه:
– ” أكتب عنّي يا صديقي. اجعلني بطلاً في كتابك. لكن لا تذكر كل شيء… اترك شيئًا للخيال. البارونات دائماً يعيشون في الأساطير، لا في المخيمات.”
ابتسمتُ، وأنا أعلم أنّه سيكون بطلاً، لكن ليس كما أراد. سيكون شاهد على زمنٍ فقد فيه الجميع عروشهم… حتى البارونات.