صدمة مبكرة ماتزال تتفاعل (فقرة من سيرة ذاتية)

إبراهيم البليهي

بعد بزوغ وعي الطفل، وقبل أن تَستكمل البيئةُ؛ احتلال قابلياته؛ يكون ناصع البراءة؛ فإذا فوجئ بما يتعارض مع هذه النصاعة؛ فإن ذلك يمثل صدمةً موقظةً ذات نتائج عميقة على تفكيره ورؤيته للناس وللحياة؛ وقد حصلتْ لي صدمةٌ مبكرة جدا؛ هي أقدم ذكرياتي، وأشدها رسوخًا، وأقواها تأثيرًا، وأكثرها تفاعلاً، وأدومها بقاءً؛ لقد بقيتْ حيةً وشديدةَ الوضوح في ذاكرتي؛ كنت في سن الثالثة أو الرابعة، وكنتُ أعبث فوق كومةٍ من الرمل تُطِلُّ على حوشِ البعارين؛ فتُمكِّنني من رؤيةِ ما يجري داخل الحوش؛ كنتُ أتابع ما يفعل النساءُ في عراكهن مع النياق، وكان النساء؛ يقمن بتعليف هذه الحيوانات، وكان بينها جملٌ هائج يـَهدر بعنفٍ، ويتطاير منه الزبد؛ فخاف النساءُ من الجمل المهتاج؛ فتصايحن بقوة؛ فصرختُ؛ أستفزع رجلاً كان جالسًا، وبيده مصحف، وكان يقرأ القرآن؛ فانتبه فورًا لصراخي، ووَضَع المصحفَ، وانتفض واقفًا؛ وهو يسبُّ ويشتُم؛ في مشهدٍ صَدَمني، وآثار عندي أعمق الذكريات، كما أثار في نفسي أدوم التساؤلات؛ التي رافقتني طيلة حياتي؛ فقد كنا في رمضان، وهو شهرٌ له خصوصية شديدة؛ وكان الوقت قُرْب آذان المغرب إيذانًا بالإفطار؛ وهو وقتٌ له أيضا خصوصيته وقُدسيته؛ وكان الرجل يقرأ القرآن حين فاجأتُه بالصراخ، وكان المتوقَّع أن يكون رد فعله متناسبا مع كل هذه الظروف؛ وكطفلٍ بريء تشبَّع بتعظيم القرآن، وبخصوصية شهر رمضان؛ لم أكن أتصوَّر أن يحصل ذلك الذي حصل ممن كان يقرأ القرآن، وبحضرة المصحف، ومن رجلٍ متقدمٍ في السن وصائم، وقُرب وقت الافطار؛ فكيف تفجَّر كلُّ ذلك الغضب ؟! وكيف انكشفت كل هذه المفارقات، وكيف حصل كل هذا التناقض ؟!!؛ رأى أحدُ الأصدقاء؛ أنه لا يمكن لإنسانٍ أن يتَذَكَّر واقعةً حصلتْ له في سن الثالثة أو الرابعة؛ وهذا صحيحٌ بشكل عام؛ فأنا لا أتذكَّر من تلك الفترة سوى ثلاثة أحداث فقط؛ وقد كان هذا الحادث هو الأشد حضورًا؛ لأنه حدثٌ صادمٌ ومؤثِّر بشكلٍ استثنائي.

 كانت الصدمةُ موقظةً بقوة، ومُنبِّهةً تنبيهًا حادًّا، وقد جاءت مبكرة جدا فكان تأثيرها قويا ومتجددًا وناميًا؛ فمنذ ذلك الوقت بدأ يتنامى عندي إحساسٌ عميق بوجود مفارقات وتناقضات حادة في الحياة البشرية؛ وهي مفارقات وتناقضات كثيفة ومتعددة ومتنوعة؛ إنها متعددة بتعدُّد الأفراد، ومتنوعة بتنوع الأنساق الثقافية المتوارثة؛ فلكل بيئةٍ ثقافيةٍ؛ تناقضاتها، ومفارقاتها التي تختلف بها عن تناقضات ومفارقات الأمم الأخرى، ولكل فردٍ مفارقاته وتناقضاته التي تختلف نسبيًّا عن مفارقات وتناقضات الآخرين، وبقيتُ سنوات طويلة؛ حائرًا وأتساءل؛ ما الذي جعلني في ذلك العمر المبكر جدا أستنكر رد فعل رجلٍ كبير هو ناضجٌ في نظر الصِّغار؛ ولم أجد الإجابة إلا حين قرأتُ فلسفةَ جان جاك روسو عن أسبقية النقاء لدى كل البشر، وأن الطفولة المبكرة؛ تكون نقيةً وصافيةً، أو يمكن أن يكون الأقرب أن نصفها بأنها ساذجة؛ حتى تتلوث؛ بما أنشأه البشر، من تحيزات، وتَحاسُد، وتقاليد، وصراعات، وأعراف، وأن الأنساق الثقافية المتوارَثة؛ هي التي أفسدتْ الإنسان؛ فوجدتُ تفسيرًا لانزعاجي من ذلك الموقف؛ فروسو يرى أن الأصل في الإنسان هو الطُّهْر والنقاء وأن التربية هي التي أفسدتْ الجنس البشري؛ فقد كنتُ طفلًا صغيرًا جدا ومع ذلك استنكرتُ ردَّ الفعل الذي حصل من ذلك الرجل؛ استنكارًا قويا، وعميقا، ومستمرًّا في التفاعل؛ فوجدتُ تفسيره في فلسفة جان جاك روسو.

لقد أفادتْني تلك الصدمةُ؛ فائدةً عظيمةً؛ لأنها أيقظتني في وقت مبكر جدا من حياتي؛ فجعلتني أدرك أن الكبار غير كاملين، وأن الأصل في عموم البشر؛ أنهم غير ناضجين، وأن النقائص، والسلبيات، والأخطاء، وقابلية الحُمْق؛ ذاتُ أولوية مطلقة في الحياة البشرية؛ وكل ذلك يجعلني؛ أُبقي كلَّ الاحتمالات مفتوحةً، ولا أستغرب حين تندلق النقائص، وهي أحيانًا تفور لأتفه الأسباب. كما أن هذه الصدمة، وما تلاها خلال السنوات؛ قد زهَّدَتْني بالتعليم النظامي الجمعي، وجعلتني أهتمُّ بالتحقق بنفسي، اهتمامًا شديدًا؛ فقد أدركتُ أن الوثوق المطلق ليس أكثر من وهْمٍ بشري؛ فصار التحقق عندي؛ قيمةً أُولى محوريةً عليا؛ وأدركتُ أن التحقق ليس متاحًا بالسهولة التي يتوَهَّمها الكثيرون؛ فارتبطتْ حياتي بالكتاب ارتباطًا شديدًا؛ فبات الكتاب هو رفيقي، وأنيسي، ومرجعي، وصديقي، والمرافق الدائم الذي لا أملُّ منه، إنه رفيقٌ، وأنيسٌ، ومعلِّم صبورٌ لا يَمل، ولا يَغضب ولا يَتذمر؛ يعطيك كل ما فيه؛ ولا يطلب منك أي مقابل؛ وبواسطة الكتب تستطيع أن تكون في منتهى الجد والصرامة، ويمكنك أيضا أن تُرَوِّح عن نفسك؛ فالكتب فيها الجاد إلى أقصى درجات الجدية، وفيها الساخر الضاحك؛ فمع الكتب يمكنك أن تكون جادًا وباحثا عن أعمق المسائل ويمكنك أيضا أن تكون ضاحكًا ومسترخيا ومرتاحًا.

 في معايشتك الدائمة للكتب في مختلف المجالات؛ سوف يتضح لك بأن الكمال محالٌ، وأنه لا ينجو من النقائص أحدٌ مهما بلغ من العظمة؛ وينطبق ذلك على كبار الفلاسفة مثل سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وديكارت، وسبينوزا، وهيجل، ولوك، وهيوم، وكانط، وشوبنهاور، ووليم جيمس، وجون ديوي، وغيرهم. كما ينطبق أيضا على العلماء الذين حققوا اختراقات عظيمة؛ مثل نيوتن وفراداي، وماكسويل، وماكس بلانك، وبور، وهايزنبيرغ وآينشتاين وغيرهم. ومثل ذلك يقال عن المشهورين من المفكرين، والمثقفين، والأدباء، والشعراء، والمبدعين في مختلف المجالات، وكذلك النقاد وغيرهم؛ إن العظماء رغم مزاياهم؛ فإنهم يبقون معَرَّضين لمختلف النقائص، والسلبيات، والأخطاء؛ فالعبقرية في أي مجال؛ لا تعني الكمال، وإنما تعني أن العبقري؛ قد تابع باندفاعٍ وحرارةٍ ومثابرة؛ أحدَ المجالات باهتمامٍ تلقائي قوي مستغرق؛ وانتهى من هذا الاستغراق؛ إلى تحقيق اختراقٍ استحقَّ به؛ أن يكون ضمن عظماء الجنس البشري. إن هذه الحقيقة تستحق أن يجري التذكير بها وتكرارها حتى تصبح من البداهات.

بالتآلف مع الكتب في مختلف المجالات؛ سوف تُدرك كيف يتوَصَّل الباحثون في مجالٍ واحد؛ إلى نتائج قد تكون مختلفة، كما تتعلم كيف يتوافق العلماء، وكيف يختلفون، وكيف يتخاصمون، وكيف تتسم بعض الخصومات بالحدَّة، وربما بعدم الموضوعية؛ وينبغي أن يتعلم الناس؛ أن الاختلاف هو الأصل؛ وأن الاتفاق التام مستبعَد، إن لم يكن محالاً؛ ففي أفضل الحالات؛ يحصل التوافق؛ كنوعٍ من المقاربة. وهذا أحد الشواهد على أن المعارف ليست يقينيات قطعية، وإنما هي محاولاتٌ اجتهادية، ومقارباتٌ بشرية مُعَرَّضة لكل احتمالات القصور، والنقص، والخطأ، والهوى، والتحيزات؛ فبمعايشة الكتب؛ يمكنك أن تَعرف الرأي، والرأي المضاد؛ فتقرأ الكتاب، ثم تقرأ كتابًا آخر مضادًا له، ثم تقرأ كتابًا ثالثًا يمثل اتجاهًا مغايرًا لكليهما؛ معتبرًا أن كل واحد يُعَبِّر عن اتجاه؛ فالحقائق ليست بالوضوح الذي يتوهمه الوثوقيون؛ فلابد من بذل جهدٍ أعمق وأوسع للتحري، والتمحيص، ومحاولة المقاربة. مع التأكُّد التام باستحالة امتلاك الحقيقة المطلقة؛ فالوجود شديد التداخل، وبالغ التعقيد، والأشياء متمازجة، والقضايا مشتبكة؛ وهذه من أهم الأساسيات التي يجب أن يتم إبرازها وتأكيدها في التعليم حتى تتحول إلى بداهة.

إن تلك الصدمة علمتني أن أُمعِن في البحث، وأن أكرر التحقق، وأن أتحرى الصواب مدركًا كثرة الصوارف في عقلي وفي عقول الآخرين لأنني تَعَرَّفتُ على آفات العقل، وصرت أتحسس جوانب قصور الإدراك؛ ولكني حين أتوصَّل إلى قناعةٍ؛ فإني أتمسَّك بالموقف مهما كانت العوائق، ومهما واجهتُ من سُخطٍ عامٍّ أو خاص؛ فأنا أدين لتلك الصدمة المبكرة بما أنا عليه؛ بخيره وشره، وكمالاته ونقائصه؛ فلم أعد أستغرب ما أراه من تناقضات؛ ومفارقات، وعدوان، وشرور؛ في سلوك الأفراد، وتصرفات الجماعات، ومواقف الدول؛ فالوعي لا يصنعه سوى المكابدة، والتعرض لمختلف المنغصات؛ إن الوعي المعرفي، والالتزام الأخلاقي، وارتقاء الحس الجمالي؛ هي قِيَمٌ ثلاث أساسية تقوم عليهما الحياة الكريمة؛ فلا شيء أهم للإنسان من بناء وعيه على أسس موضوعية، وحرصه على أن يلتزم بالحق، وأن يسعى إلى الخير، وأن يبتهج بما في الحياة من جمال، وأن يتعامل مع الآخرين بصدقٍ، وأمانةٍ، وحرصٍ خالصٍ مبنيٍّ على الحقائق الموضوعية بقدر ما تَسمح به الطبيعة البشرية، وما تتيحه فسحةُ الحياة؛ فحياة الفرد قصيرة، واحتياجاته محدودة، ولا يوجد ما يبرر ما تمور به الدنيا من تنافسٍ، وافتراء، وتحاسدٍ، وتجنٍّ، وبغضاء، وعدوان؛ فمن واجب الإنسان أن يحاول ويحرص ويكافح ليكون أمينا مع ذاته ومع الحياة ومع الآخرين.

 وأعود لأقول: لقد صَدَمتْني تلك الحادثةُ صدمةً قوية؛ فقد كان الرجل صائمًا، وكان بيده مصحف، وكان يقرأ القرآن، وكان طلبُ النجدة مبرَّرًا؛ فالموقف لا يتطلب ذلك التفجُّر؛ ثم خلال عمري بدأتُ أقارن المواقف، وألاحظ هشاشة وسرعة وسهولة التبدلات في هذه المواقف، وتعلمت أن خلف التوافق الظاهري تنافرٌ حادٌّ، وأن الموضوعية المزعومة تنهار حين تحضر المصالح، أو حين تكون الحقيقة مهما بلغت من النصاعة والصدق؛ لا تتوافق مع الرغبة أو الحاجة أو الاتجاه؛ فالآراء تدور مع الأهواء فالقبول أو الرفض ليس محكومًا بالحقائق الموضوعية بل بالأسبق إلى القابليات، وبالميول، والرغبات، والتطلعات، والحاجات، والآمال والمواقف المسبقة، والأهواء. لقد تعلَّمتُ أن تحت السكون الظاهر عواصف مدمرة؛ عواصف جاهزة للاندلاع، وأن خلف الوقار المصطنع؛ نقائص بشرية كثيفة، وحماقات فظيعة جاهزة للتفجر؛ لأتفه الأسباب؛ إن هذه الجاهزية للانفجار والتحول والنكوص عن المواقف من دون سبب مبرَّر؛ تتنافى بشكل صارخ مع ما ينشأ عليه الطفل من تصوُّرٍ خاطئ عن حكمة الكبار ونضجهم ورزانتهم وتتناقض مع ما يتوقعه الطفل في سذاجته البريئة؛ من الالتزام والصدق والبراءة، والصلاح والاستقامة والخير والعقل، والمنطق. إن الإنسان كائنٌ إشكاليٌّ؛ إنه كتلةٌ من التناقضات والمفارقات. ومن أفْرَط العالم الشهير دزموند موريس فبالغ في رد السلوك البشري إلى الطبيعة الحيوانية فلم يتردد بأنْ يؤلِّف كتابًا عن المجتمع البشري بعنوان (حديقة الحيوانات البشرية) إن دلالة العنوان كافية؛ إنه يصف الإنسان في كتابٍ آخر بأنه (الحيوان العاري) فهو لا يرى للإنسان مزية إلا بأن جلده عارٍ من الصوف أو الشعر الكثيف الذي يُغَطِّي أجسامَ الحيوانات. لكنني ضد هذا التوجُّه المفْرِط؛ فالإنسان كائنٌ ثقافيٌّ؛ فهو يصاغ بما ينضاف إليه، وليس بما يولد به. إن الوضع البشري ليس بالسوء الذي يؤكده هذا العالم؛ إن القابليات الإنسانية تتيحُ إمكانيةِ تحقيقِ وثبةٍ أخلاقيةٍ عظيمةٍ هائلةٍ؛ ليكون الإنسان كما يتمنى الفلاسفة منذ عهد سقراط. لكن هذه القابليات تَختطفها الأنساقُ الثقافية المتوارثة؛ فتئد تطلعات الحكماء. أما فيلسوف عهد النهضة إيراسموس فقد ألَّف كتابًا عن ((الحماقة الجماعية)) ووضع لكتابه اسمًا ساخرًا (مديح الحماقة) لكنه كان يتوَهَّم أن ذلك كله سوف يتغيَّر سريعًا بشكلٍ جذري فكتب يقول: ((أتمنى أن أعود شابًّا لأنني أتوقَّع اقتراب عصرٍ ذهبي)) ولكن هذا العصر الذهبي لم يأت. ثم جاء عصرُ التنوير فتوَهَّم رواد التنوير أنه ليس بينهم وبين نُضج الإنسانية كلها سوى أن تتاح المعرفة للجميع ليتجاوز الجنس البشري عصور الحماقة. لكن مضتْ القرونُ من دون أن يأتي النُّضج الموعود؛ فالطبيعة البشرية أشد استعصاءً من أوهام رواد التنوير. ولأنني قد اكتويتُ مبكرًا؛ فإني بقيتُ مهتمًا بمتابعة ما يصدر من دراسات وكتب عن الإنسان.  

لقد بقيتْ تلك الحادثةُ ملازمةً لي؛ فكلما تقدَّمْتُ في العمر؛ تبين لي أن السلبيات بلا حدود، وأنها تلقائية الوجود، وأنها ذات جاهزية دائمة، أما الإيجابيات فليست تلقائية الوجود؛ وإنما يجب تكوينها قصدًا، وأنها لا تصير تلقائية الفاعلية إلا بمصابرة ومثابرة وانتظام ومجاهدة؛ حتى يتم تحويلها إلى عادات راسخة بالمداومة عليها والتوجُّس الدائم من تآكلها؛ فتأجَّج عندي الإحساسُ العميق القوي بأن الاستقامة، والخير، والحق، والعقل، والإنصاف والموضوعية، والتجرُّد؛ ليست طبيعية في الإنسان بل إنها طارئة، وسطحية، وهشة، وملتبسة، وأن التحيز المطلق، والجهل المطْبِق، والحمق الفاضح، والشراسة المتفجرة، والشر الكامن، والأنانية المتحفزة؛ تختفي تحت قشرة رقيقة؛ فليس أسهل من أن تتمزق هذه القشرة؛ فيمتد اللَّهَب؛ فتَحْتَ سطح المظهر الخادع؛ فوادحُ جاهزة ومتحفِّزة للانفجار؛ فلا يتطلب الأمر سوى أن يُستثار الشخص، أو أن لا يتحقق ما يهواه، أو أن يَغضب لأي سبب؛ لتنكشف الطبيعةُ الحقيقية للإنسان؛ فتفور نقائصه، وتندلق مكنونات ذاته، وينجلي القُبح والعُفونة؛ فتصبح حقيقةُ الإنسان عاريةً وفاضحة. إن ثورةَ غضبِ فردٍ نافذٍ؛ قد أشعلتْ الحربَ العالمية الأولى، فهدَّمت مدنًا، ودمَّرتْ أوطانًا، وأزهقت أرواحَ الملايين؛ وليست تلك الحرب المدمرة؛ سوى امتدادٍ لحروبٍ مرعبةٍ تكررتْ خلال التاريخ، كما أنها كانت تمهيدًا للحرب العالمية الثانية التي كانت أفظع هَولاً؛ إن إحراقَ غابةٍ هائلة؛ لا يتطلب سوى إشعال طرفها؛ فيمتد اللهب، وتتصل الحرائق؛ فليس أسهل من اندلاع الشر، ولكن ليس أصعب من حصْره أو إطفائه؛ فالتاريخ البشري في عمومه هو سجلٌّ للحماقات البشرية.

        ومنذ أن أصبحتُ أقرأ صرتُ أبحث حول الإنسان؛ هذا الكائن الإشكالي؛ أريد أن أعرف طبيعته بشكل موضوعي؛ كما هو من دون تزويق أو تلميع أو بـهرج. وحرصت بأن أقرأ ما أستطيع قراءته عن طبيعة الإنسان؛ وتاريخه، وأنساقه الثقافية المتضادة، وحالات جموده، وومضات انفتاحه، وطبيعة تكوينه، ومغارات أعماقه، وتنوُّع قابلياته، ومفاجآت أخلاقه، وكيفية تَبَرْمُجِه بهذا الركام من التناقضات والمفارقات والأوهام، ونمتْ في نفسي لهفةٌ شديدةٌ متجددةٌ إلى المعرفة الموضوعية؛ فلم يعد الإلحاح على ملاحقة المعرفة مطلبًا مرغوبًا فقط؛ وإنما صار حاجةً ذاتيةً مُلِحَّة؛ وبات هَمًّا مستعرًا متجددًا، ومطلبًا حافزًا ملحًّا؛ فصار همي أن لا يفوتني أيُّ كتابٍ يتناول الطبيعة البشرية أو الإنسان أو العقل أو العواطف أو الدماغ أو المجتمع أو الثقافة أو الحضارة. وكنت أبحث عن ذلك؛ في الفلسفة، والعلم، وتاريخ العلوم، والتاريخ العام، وفي الأدب والفن، وفي التحليل النفسي، وفي علم النفس، ثم جاءت أخيرًا علوم الدماغ لتكشف الطبيعة البشرية بوضوح، ولتؤكد هشاشة الإنسان. لقد واصلتُ البحث والدراسة، والتأمل في هذا المخلوق العجيب الغريب؛ المشحون بالمفارقات والتناقضات؛ فهو يبدع أروع الأشعار، ويكتشف أدق الحقائق، ويحلل ويجلو أشد القضايا خفاءً وتعقيدًا، ويبتكر أروع الآلات، ويخترع أدق الأجهزة، ويُنتِج أعقد وأضخم المخترعات، وينجلي فكره عن أعظم الأفكار، وتتمخض تأملاته عن أرفع الرُّؤى. لكنه رغم كل مزاياه، ورغم جميع إبداعاته؛ فإنه لا نـهاية لنقائصه، ولا حدَّ لحماقاته؛ إنه كتلة من الآفات الذهنية، والمعَرَّات الأخلاقية؛ إنه ظلومٌ، وجهولٌ، وأناني، ومستأثر، وجَحود، ومنكر للجميل، إنه ابن لحظته. ليس هذا فقط بل إن كل مزاياه هي نتاج عيوبه فحتى عبقريته لا تأتي غالبًا إلا عند تُخوم جنونه.

        من البديهي أن الإنجازات الحضارية؛ عظيمة، ومتنوعة، وباهرة، ونامية؛ وكلها كَوَّنها الجنسُ البشري بكل نقائصه؛ فكيف تَحقَّق كلُّ ذلك رغم نقائص الإنسان الفظيعة المتحفزة ؟!؛ لقد قمتُ بالاستقصاء حول هذه الإشكالية؛ وتوَصَّلتُ إلى أن الحضارة قد تَكَوَّنت بالتكامل بين الريادة والاستجابة؛ فالاكتشافات العظيمة؛ تأتي من الأفراد المبدعين؛ لكن ومضاتهم الإبداعية؛ لا تتحول إلى نتائج ملموسة إلا بواسطة الجماعات التنفيذية، التي تقوم بالتطبيق والإنتاج والممارسة؛ فالتطور الحضاري قد تحقق بواسطة التكامل بين القلة المبدعة، والكثرة المنتجة؛ إن مهمة التعليم في كل العالم بجميع مراحله، ومختلف تخصصاته هو إعداد من يقومون بالتنفيذ والتطبيق. أما المبدعون في مختلف المجالات؛ فهم نتاج ذواتهم؛ فالإبداع خارج مهام التعليم. وقد شرحتُ ذلك وبرهنت عليه بالتفصيل في أربعة كتب وهي كتاب (الريادة والاستجابة) وكتاب (عبقرية الاهتمام التلقائي) وكتاب (الإبداع والاتباع) وكتاب (إخفاق التعليم) وعلينا أن نتذكر دائمًا أن العبقرية لا تعني الكمال ولا التحرر من كل النقائص؛ فالعبقرية قدرةٌ خاصة من القدرات البشرية؛ وكلُّ قدرةٍ؛ تكون مصحوبةً بآفات؛ فالأفراد العباقرة مثخنةٌ حياتهم بالنقائص والآلام. إن البعض يتوهمون أن الفرد العبقري خارقٌ في كل شيء أما الحقيقة؛ فإن الشخص العبقري يمتلك خيالًا واسعًا، وطاقةً متقدة، ودماغًا نَشِطًا مرنًا، واندفاعًا قويًّا؛ في اتجاه معيَّن يحقق فيه اختراقات عبقرية؛ ومثلما كتب آينشتاين في سيرته حيث يقول: ((إنني رجلٌ مهووسٌ؛ أعملُ باندفاعٍ)) فالعبقرية اهتمامٌ تلقائيٌّ قويٌّ مستغرق. لكن العبقري قد يكون بائسًا في حياته؛ على النحو الذي يصفه العالم الأمريكي هارولد فينك في كتابه (لمن ترهقهم الحياة) وهو ليس سوى واحد من مئات أو آلاف الكتب التي تتحدث عن معاناة العباقرة في حياتهم الخاصة؛ إن العباقرة شُموعٌ تحترق لتضيء دنيا الحضارة؛ فالعبقرية ليست خيارًا حُرًّا وإنما يجد العبقري نفسه مندفعًا في اتجاه معيَّن رغمًا عنه؛ فالعباقرة فدائيون في مجالات الفكر والعلم والفن والابتكار والاختراع والريادة والقيادة.

        بل إن العبقري قد يكون شريرًا وسفاحًا كما هي حال جنكيز خان وهتلر وستالين؛ وكما يرى الفيلسوف الألماني الأكبر هيجل: ((أن الصراع هو قانون النمو وأن الارتقاء إلى مستوى الأخلاق الإنسانية؛ ينبثق عن الصراعات؛ فالأخلاق تَتَشكَّل في الشدائد والآلام. إن الألم علامة الحياة والحافز لإعادة البناء)) ومن أوضح نماذج الإفاقة الأخلاقية أن أوروبا كانت غارقةً بالتفكير العنصري، واحتقار أمم الشرق، ولكن ادعاءات هتلر بتميُّز الألمان؛ جعل أوروبا تفيق من سكرة غرورها فتُدين التفكير العنصري؛ فالأصل في الإنسان أنه ليس عقلانيا كما يتوهم الكثيرون بل إنه لا يفيق إلا بتعرُّضِه لكارثةٍ كبرى كالحرب العالمية الثانية؛ التي صدمت أوروبا؛ فأفاقت من غيبوبة دعاوى التميُّز العرقي؛ فالإنسان كائن تحركه غرائزه وعواطفه؛ وكما يقول هيجل: ((لم يتم إنجاز أي شيء عظيم من غير أن يكون مدفوعًا بعاطفة قوية)) ويرى هيجل: ((أن تاريخ العالم ليس مسرحًا للسعادة)) وأن الإنسان السعيد المرتاح؛ يكون خاملاً؛ فلا يَندفع للتغيير، ولا لطلَب الارتقاء؛ فهو بهذا الرضى، وبهذه القناعة يكون غير مبدع وغير منتج؛ وكما يقول هيجل: ((إن فترات السعادة تكون خاملةً إنـها صفحاتٌ بيضاء لأنـها فتراتُ انسجامٍ خالية من الصراع)) إن هيجل يرى أن راحة البال تعني البلادة التي لا تليق بالإنسان إن التاريخ في فلسفة هيجل: ((لا يُصنع إلا في الفترات التي يقرر فيها النمو والتطور أضداد الحقيقة والوجود)) ويقول هيجل: ((ينتج عن أفعال الناس شيءٌ آخر غير ما يتوقعون أو يُنجزون؛ إنـهم يُنجزون مصالحهم لكن يحدث بجانب ذلك شيءٌ آخر مُضمَر شيء لا ينتبه إليه وعيهم ولم يكن في حسبانـهم)) ويضيف هيجل: ((إن المصلحة الخاصة والهوى لا تنفصل عما هو كونيٌّ؛ وهذا هو ما يتعيَّن أن نسميه مكر العقل، فالعقل يـتـرك الأهواء تتصرف مكانه؛ والوسيلة الوحيدة التي يتوصل بواسطتها العقلُ إلى أن يوجد تَـمُرُّ عبر محنٍ وآلامٍ؛ فالأفرادُ مُضَحَّى بـهم، ولا منجِد لهم؛ فالفكرةُ تؤدي ثمن الوجود لا بذاتـها بل بأهواء الأفراد)) لذلك فإن كل الذين أمعنوا النظر في الحياة وجدوها مأساة؛ فالمتنبي ينصح بعدم الاكتراث بما يجري في الحياة فيقول:

                 لا تَلْقَ دَهرَكَ إلاّ غير مُكْتَرِثٍ            ما دام يَصحَب فيه روحَك الَبدَنُ

                  فما يَدومُ سرورٌ ما. سُرِرتَ به.           ولا يَرُدُّ عَليكَ الفائتَ الحَزَنُ  

        ولكن المبدع البرتغالي الحائز على جائزة نوبل في الأدب خوسيه ساراماغو ينفي فائدة النصائح؛ فالإنسان لا يتعلَّم من تجارب الآخرين وإنما يتعلم فقط حين يكتوي: ((فلا يُحِسُّ بحر النار إلا واطيها)) لذلك يقول ساراماغو: ((المرء لا يَنضج بالنصائح، ولا بالمواعظ، ولا بتجارب الآخرين؛ بل ينضج حين يقطع الفقدانُ جزءًا من قلبه، وينحني ظهره من خذلان أحبائه، وتتهاوى طاقته، ويصبح هشًّا؛ بجسدٍ هزيلٍ من الركض في الطُّرُق الخاطئة، ويكتمل نُضجُ المرء حين تقتلعه الحياة من جذوره)) ونفس الرؤية يؤكدها المبدع العربي نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل في الأدب حيث يقول: ((الذي يحفز الإنسان دائمًا العوائق والقهر والقيود؛ فهي التي تدفع الإنسان؛ لأن العوائق تعطيك طاقة المقاومة والمحاربة) ونجد المعنى ذاته يتكرر عند أدباء وعلماء ومفكرين وكُتَّابًا وفلاسفة؛ فالحياة مكابدة دائمة ولا يكاد الفرد يبتهج بأي فوز، أو يرتاح لأي نجاح، أو يطمئن لأي وضع؛ حتى يتم تشويه ما أنجز، أو يفاجأ بفقدانه؛ لذلك يقول المبدع الفرنسي بروست: ((ما يثير الغمَّ هو أن كل الناس تعساء)) ومثلما تقول الكاتبة المبدعة الإيطالية إيليزا مورانته: ((الحياة ليست عادلة ولا منطقية؛ لكنها دائمًا تَفرِض علينا أن نعيشها حتى النهاية)) فالتعلق بالحياة غريزة عميقة مُلِحَّة ليس فقط لدى الإنسان وإنما لدى كل الأحياء؛ فحتى النبات يكافح العوائق؛ فيعاند ويستبسل من أجل الحياة، فجذور الأشجار حين تواجه صخرةً؛ فإنها تكافح لاختراقها أو الالتفاف حولها، والنبتة المتسلقة إذا حجبتْ الأشجارُ عنها ضوءَ الشمس؛ فإنـها تتحايل وتتسلق وتأخذ مسارات متعرجة من أجل أن تصل إلى ضوء الشمس؛ فحياتـها مرتـهنة بما تناله من هذا الضوء؛ فكل الأحياء تخوض الصراعات من أجل البقاء، فالقوي يفترس الأقلَّ قوة في سلسلة من الافتراس والتنازع الذي لا نهاية له؛ صرعاتٌ بين الأشجار الضخمة، والنباتات الصغيرة، وصراعاتٌ بين الحيوانات حتى الحيوانات المفترسة تَفترسها الحيواناتُ الأشد فتكًا. والناس أيضا في حالة صراعات دائمة؛ تكون صريحةً ومعلنةً كما في حالة الحروب، والمنازعات الحادة المعلنة، وقد تكون الصراعات مستترةً كما في حالة التنافس والتدافع والافتراء والغيبة والأحقاد بين الأفراد والتحاسد والختل والنميمة وبما لا نهاية له من أسباب الإيذاء. وحتى الأطفال يتنمَّر الأقوياء على من يستضعفونهم.

        إن الحياة كفاحٌ لا يهدأ، ومجاهَدَةٌ لا تنقطع؛ فنحن البشر؛ نتاجُ كفاحٍ مرير، ومقاومة لا تعرف المهادنة؛ يقول الفيلسوف المعاصر سلافوي جيجك: ((من المؤكد أن التطور قد تَشَكَّل من سلسلة من الكوارث والنكبات إن انكسار التطور هو جزء من تاريخنا فمع كل نقطة في التاريخ الطبيعي كان يمكن للأشياء أن تأخذ مجرى آخر يمكن أن يؤدي إلى نتائج مختلفة)) إن الإنسان مقودٌ بغرائزه، ودوافعه، واحتياجاته، وقيمه، وأهدافه، وبما تلقاه دماغه في طفولته؛ فتبرمَج به تلقائيا قبل انبثاق وعيه؛ إنه لا يتصرف بإرادة محضة؛ فالقيم تُكَوِّن اهتماماته؛ فهي التي تَدفع الإنسان إلى التحرك، والتصرف، والعمل، والمجاهدة، والانجاز، وكل تجليات السلوك؛ ومثلما يقول أستاذ الفلسفة الدكتور عادل العَوَّا: ((فالقيمة شرطُ كلِّ وجودٍ؛ إن القيمة؛ تَظهر لنا في ثوبٍ نرغب فيه، أو هدفٍ نبتغي نواله، أو تَوازنٍ نسعى إلى تحقيقه)) وما تقوله الفلسفة عن محورية وفاعلية القِيَم؛ قد أكَّده علمُ الأعصاب؛ ففي كتاب (بيولوجيا السعادة) للعالم النرويجي بيورن جريند؛ يؤكد أن السلوك البشري؛ يَنتُج عن عملية تقييم؛ فالدماغ يقوم بالموازنة بين البدائل المتاحة في أي شأن لكن الدماغ ليس فيه مركز تَحَكُّم؛ لذلك فإن قرار الاختيار؛ يخضع للتداول والموازنة بين مختلف البدائل بناء على تقدير القيمة لكل بديل. يقول جريند: ((يتطلب القيام بوزن البدائل؛ وجودُ نوعٍ من التداول في المخ؛ أي ارتباط القيمة بمختلف العوامل ذات الصلة، التي يمكن أن تُضاف أو تُطْرح من الحسبة)) ويضيف: ((المشاعر الإيجابية والسلبية؛ تعمل كعملةٍ متداولة للقيمة الخاصة بمختلف البدائل)) لذلك فإن الإصلاح الأخلاقي، وتهذيب الذوق والارتقاء به، ونمو الفضائل، وإخماد أو إضعاف أو لجم نوازع الشر في الإنسان؛ لا يتحقق بالنصائح، ولا بالتعليمات، ولا بالزواجر، ولا بالتعليم؛ بل يتحقق بتحويل القيم الأخلاقية الفاعلة إلى أهدافٍ ذاتية مُحَرِّكة؛ يندفع الفرد لتحقيقها؛ فتصير تلقائية الفاعلية؛ باعتبارها تُلَبِّي حاجةً، أو تَستجيب لرغبة، أو تُحقق مطلبًا، أو يُنال بها هدف، أو تَستبعِد ألَمًا أو كدَرًا أو غبنًا أو مرارة أو تَعِدُ بلذَّة أو بفوز أو بابتهاج أو أية مسَرَّة.

        إن طبيعة الإنسان قابلةٌ للارتقاء في مجال المعرفة الموضوعية؛ بالحرص على إدراك الحقيقة الممحَّصة، وفي مجال الفن؛ بتنمية الذوق وترقية الحس بالجمال، وفي مجال الضمير بتكوين الحس الأخلاقي. إن كل جانب يتطلب تكوينًا خاصًّا به؛ فبناء القدرات المعرفية؛ هو بناءُ قدرةٍ؛ والقدرةُ تحتاج إلى ضبط وتصويب، ويحصل التكامل بتهذيب الذوق وتنمية الحس الجمالي؛ فلابد أن تتكامل في الفرد الجوانب الثلاثة؛ ومثلما قال المبدع الفرنسي بودلير: ((يسعى العقل الصافي إلى الحقيقة، ويكشف لنا الذوق عن الجمال، ويعلمنا الحس الأخلاقي ما هو الواجب)) لكن التعليم الجمعي النظامي في كل العالم، رغم طول مدته، وتعدُّد مراحله، وارتفاع تكاليفه، والاستنفار العام من أجله، والآمال المعلَّقة عليه؛ رغم كل ذلك؛ فإنه لا يبني العقل الصافي، ولا الحس الأخلاقي، ولا يُكَوِّن الذوق الفني الجمالي.   

إن الإنسان مدفوعٌ بطبيعته؛ فهي تدفعه تلقائيا إلى المنافسة؛ بتنمية قدراته حسب مستوى فهمه، ونوع وأصالة اهتماماته؛ فالقدرات هي سلاحه في الصراع وفي التدافُع الذي لا يَفتر، وهي أدواته في المنافسات التي لا تنتهي؛ لذلك فإنه يندفع تلقائيًّا لبناء قدراته؛ فالأنانية، والتمحور حول الذات، والأَثَرَة، والعدوانية، والتحيزات الصارخة، والتنصل من المسؤوليات، واتباع الهوى، وتجاهل الحقائق التي لا تخدم الأهواء؛ إن هذه كلها وغيرها من النقائص البشرية العميقة؛ تفيض تلقائيًّا؛ بفاعلياتٍ غريزيةٍ جاهزةٍ ومتحفزةٍ دومًا للتحرك والاندفاع، أما كبح الاندفاع، ومقاومة الغرائز فلا تأتي إلا حين تتحول الفضائل إلى أهدافٍ ومَطْلبٍ ذاتيٍّ للفرد، ولا يكفي أن تكون الفضائل هدفًا ومطلبًا وإنما لابد من مجاهدَة النفس، وتمرين الذات، والتعود على الفعل اللائق، وفقًا لأرقى المبادئ، والالتزام الطوعي بالسلوك الرشيد، والمداومة الملِحَّة على ذلك؛ حتى تترسَّخ كعاداتٍ تلقائيةِ الاستجابة؛ فالفضائل العظيمة ككل الإيجابيات؛ لا تتكوَّن تلقائيًّا وإنما لابد أن يتم تكوينها قصدًا؛ بتنظيمٍ وإصرارٍ ومتابعةٍ وإلحاح؛ حتى تصبح بالتعوُّد طبيعةً ثانيةً راسخةً رسوخَ الغرائز؛ لينساب منها التفكير والسلوك انسيابًا تلقائيًّا. إن الإنسان ليس سوى حزمة من الغرائز، وسلسلة من العادات؛ فالغرائز يولد بـها الفرد، أما العادات؛ فإنها تتكوَّن تلقائيًّا بالمعايشة، أو حين يتم بناؤها قصدًا؛ وهي بعد أن تتكوَّن تصبح مثل الغرائز في الرسوخ والتلقائية والفاعلية. ومن هنا يختلف الناس كل هذه الاختلافات الواسعة؛ فالإنسان هو ابن عاداته فلابد أن نجيد بناء عاداتنا لنعيش حياةً إنسانية، مسؤولة فاضلة كريمة؛ تليق بكائنٍ مسؤول، صادق، عاقلٍ، مختارٍ؛ يميز الحق من الباطل ويكون منفتحًا للحقيقة من أي مصدر جاءت، وهذا الانفتاح لابد؛ أن يكون ناشئًا عن تصميم وكفاح من أجل بناء العادات؛ التي تستجيب للحق حين يتضح، وتبتهج بالخير حين يعم، وتطرب للجمال في الفكر والعمل والأداء والفن والحياة والأشياء.

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

مصطفى عبدالملك الصميدي

أعمى أهـيـمُ

ولـنْ يـرْتـدّ لِـي بَـصَـرُ

ما لمْ تكـوني بقُـربـي ضَـوْئِيَ النّظَرُ

 

فحدِّقِي

في جيوبِ الغَيـمِ

وانتظري

قـمَـراً يـطِـلُّ علـى الدُّنـيـا

وينتـظـرُ

 

عـينـاك فـي اللـيل

مِـرآةٌ يحـطّ بها

وطِـبُّ عـيْنـايَ فـي مِرآتك

الـقَـمـرُ

 

يا رُبَّ أعمى

غداً يصـحـو بَصِيرا إذا

ما عـاد يذكُـر إنْ قَـد مَـسَّـهُ

الـضّـرَرُ

 

حتى وإنْ جاءَهُ سُؤْلٌ:

شُفِيتَ متى؟

يقـول لا عِلْـمَ لـي

مـا شَـاءَهُ الـقَــدَرُ

 

=========

اليمن

يسر موقع ولاتى مه أن يقدم إلى قرائه الأعزاء هذا العمل التوثيقي القيم بعنوان (رجال لم ينصفهم التاريخ)، الذي ساهم الكتاب : إسماعيل عمر لعلي (سمكو): نارين عمر سيف الدين، حاجم موسى، هشيار عمر لعلي، وبهجت حسن أحمد، في تأليفه.

وسيقوم موقع ولاتى مه بالتنسيق مع الكاتب إسماعيل عمر لعلي (سمكو). بنشر الحلقات التي ساهم الكاتب (سمكو)

ماهين شيخاني

لم تكن الدرباسية يوماً مدينة كبيرة بالمعنى الجغرافي، لكنها كانت — كما يصفها المسنين — “مدينة من الضوء والحنين”.

في نهايات الخمسينيات، حين كانت الطرق ترابية، والمولدات تُدار باليد، وعلب البوظة المعدنية تصدر رنيناً في أزقة السوق، وُلدت أول دار سينما في المدينة… سينما ( سلوى ) ل جليل قره زيوان.

كانت تقع مقابل المطحنة ومعمل…

نحن، إدارة مركز الجالية الكوردستانية، الذين عملنا تحت مظلة الفدراسيون لأكثر من أربع سنوات، وساهمنا في جمع الجمعيات المدنية الكوردية والفنانين والمبدعين تحت لواء مركزنا، نرفع إليكم هذا التقرير لتوضيح ما تعرضنا له من إجحاف وظلم بحرماننا من حقنا المشروع في المشاركة في المؤتمر القادم، المزمع عقده بتاريخ 7 ديسمبر في برلين.

للأسف، نحيطكم علمًا بأن…