م: محمد حاج سعيد رشو
في الماضي كان الإنسان يقف طويلاً أمام الكتاب كما لو كان أمام مرآة يرى فيها نفسه ويعيد تشكيل وعيه. لم تكن القراءة مجرد وسيلة للترفيه بل كانت فعلًا يؤسس للمستقبل ويبني العقول التي صنعت التقدم والنجاح. فكل نهضة حقيقية تقف خلفها عقول قرأت كثيراً وتأملت أكثر.
أما اليوم فنحن نعيش في زمن السرعة. تصلنا الأخبار في لحظة وتومض أمامنا المعلومة ثم تختفي دون أن تترك أثراً عميقاً. لم نعد نمنح عقولنا الوقت الكافي للتفكير الهادئ ولا لرحلة متأنية داخل فكرة واحدة. أصبحنا ننجذب إلى العناوين السريعة والملخصات المختصرة وكأننا فقدنا الصبر على البحث والتعمق.
لقد جعلتنا التقنية نعيش في عالم افتراضي صاخب بينما تلاشى إدراكنا للواقع الذي نعيشه فعلاً. لم ننضج فكرياً كما ينبغي، لأننا ابتعدنا عن واحدة من أهم وسائل النضج: القراءة. فالقراءة ليست مجرد مصدر للمعرفة بل هي وسيلة لتربية العقل على التفكير وتوسيع الأفق وزرع الحكمة فينا بهدوء وثبات.
فعندما نقرأ لا نجد الإجابات فحسب بل نتعلم كيف نطرح الأسئلة الصحيحة. نكتشف أننا لسنا وحدنا في حيرتنا وأن من سبقونا واجهوا ذات الأسئلة وتركوا لنا أثراً نستضيء به.
القراءة كمشروع وطني
ولأهمية القراءة أصبحت في العديد من الدول المتقدمة مشروعاً وطنياً. حيث لم تعد القراءة نشاطا فردياً أو هواية شخصية، بل أداة استراتيجية لتنمية الإنسان وبناء المجتمع. ففي كثير من الدول أُدرجت القراءة ضمن السياسات الوطنية، باعتبارها استثماراً في رأس المال البشري، قادراً على تعزيز التفكير النقدي والإبداع، وبناء أجيال واعية .
- فنلندا: المكتبة قلب المجتمع.
في فنلندا تُعتبر المكتبات العامة مركز المجتمع ومكاناً للتفاعل الثقافي والإبداعي.
- صُممت المكتبات بأسلوب عصري يشجع الزوار على البقاء لساعات طويلة مع توفير مساحات للقراءة والنقاش والعمل الإبداعي.
- خصصت الحكومة جزءاً من الميزانية الوطنية لدعم هذه المكتبات وجعلها مجانية للجميع.
- كثير من الفنلنديين يعتبرون المكتبة (البيت الثاني) ما يعكس الأهمية الاجتماعية والثقافية للمكتبة في حياة الأفراد.
قال الفيلسوف الفنلندي يوهان فيلهلم سنايلمان:
(عندما يقرأ الشعب، يصبح هو من يكتب مستقبله)
- اليابان: القراءة جزء من الحياة اليومية
في اليابان تُدمج القراءة في الحياة اليومية منذ الطفولة وليس فقط في المدارس.
- تشجع المدارس الأطفال على زيارة المكتبات أسبوعياً ويُمنح كل طفل بطاقة مكتبة منذ سنواته الأولى.
- تتوفر مكتبات صغيرة مجانية في محطات القطارات والمترو، يمكن استعارة الكتب وإعادتها في أي محطة أخرى.
- تُنظّم مسابقات وطنية للقراءة تشارك فيها العائلات والمدارس مما يجعل القراءة نشاطاً جماعياً.
قال المفكر الياباني فوكوزاوا يوكيتشي:
(أمة لا تقرأ لا تستطيع أن تفهم نفسها، ولا أن تصنع مستقبلها)
الخاتمة
إن أردنا مستقبلاً مختلفاً، فعلينا أن نعيد للكتاب مكانته…