التاريخ لا يظلم احدا

محلل
يقال احيانا ان هناك “رجالا لم ينصفهم التاريخ”، وكان التاريخ كائن جائر، يوزع المجد والانصاف على من يشاء ويحجبه عمن يشاء. غير ان التامل العميق في معنى التاريخ ووظيفته يبين ان هذه العبارة، على شيوعها، ليست دقيقة؛ فالتاريخ، في جوهره، لا يظلم احدا، بل يمارس عملية فرز طويلة المدى لا تخطئ في نتيجتها النهائية، حتى وان بدا في لحظات انه قد حاد عن العدل.

ان ما نسميه “ظلم التاريخ” ليس الا قصورا في وعي الحاضر، لاننا نحكم على لحظة لم تكتمل بعد. الزمن وحده هو الذي يملك سلطة الكشف، والتاريخ ليس الا وجه الزمن حين يتامل ذاته. قد يبدو الانسان في عصره منسيا او مهملا، وقد يحيط بالاتهام والنكران، غير ان هذا لا يعني ان التاريخ اغفله، بل انه لم يحن بعد موعد انصافه. فعدالة التاريخ لا تعمل في التو، بل في الامد الطويل؛ اذ تحتاج الى ان يهدأ الغبار، وان يفرغ الزمن من اختبار النتائج، ليميز بين الاثر العابر والاثر الخالد.

الانصاف في التاريخ ليس حكما يصدره المؤرخون، بل اعتراف الوجود نفسه بالقيمة. فالرجل الذي اضاف للحياة معنى، او وسع مدار الوعي الانساني، لا يمكن ان يمحى من سجل الزمن، حتى لو حاول الناس تجاهله. والعكس صحيح؛ فكم من اسماء مجدت في لحظتها، ثم تهاوت حين لم تجد في الذاكرة ما يسندها. ان الزمن يبقي ما هو صادق في الوجود، ويسقط ما كان زيفا او ادعاء.

من هنا، يمكن القول ان التاريخ لا يظلم الرجال، لانه ليس طرفا في صراعهم، بل هو المرآة التي تعكس حقيقتهم حين تنقشع اوهام اللحظة. وما يبدو ظلما انما هو بطء في حركة الوعي، او تأجيل لحكم لم يكتمل نضجه بعد. فالتاريخ لا يقاس بالسنوات، بل بنضج الرؤية، وعدالته ليست في السرعة، بل في الدقة والخلود.

ان الانسان حين يقول: “التاريخ لم ينصف فلانا”، فهو في الحقيقة يشكو من بطء الزمن في كشف الحقيقة، لا من ظلم واقع في ذاته. فالتاريخ، كالنهر، لا يتوقف ليرضي احدا، لكنه يحمل في مجراه كل ما يستحق البقاء، ويسقط ما لا وزن له. ولهذا، فالتاريخ — في صمته الطويل وعدالته الباردة — ينصف الجميع في النهاية، لانه لا ينسى، لكنه ينتظر اللحظة التي تنكشف فيها الحقيقة بلا ضجيج.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

د آلان كيكاني

منذ اشتعال فتيل الجنون في سوريا يسهل عليك تمييز السوري من بين الناس أينما كنت، وأينما كان هذا السوري…

ولو كنت دقيقَ ملاحظةٍ لعرفته من على بعد مئات الأمتار.

لا لرائحة خاصة تميزه كما عند بعض الكائنات.

وليس لسحنة مميزة تخصه كما عند بعض الشعوب.

وإنما لأسباب أخرى …

مثل إطراقة الرأس.

والكآبة البادية على محياه.

وربما لاحمرار عينيه وذبولهما.

ها…

صدر حديثاً عن منشورات رامينا في لندن كتاب “سيرة النصّ المفتوح – رحلة واسيني من تلمسان إلى السوربون” للباحثة والكاتبة السورية أماني محمّد ناصر. وهو يمثل دراسة نقدية معمّقة تتناول المسار الإبداعي والفكري للروائي الجزائري واسيني الأعرج، أحد أبرز الأصوات السردية العربية المعاصرة، من جذوره الريفية الأولى في تلمسان إلى موقعه الأكاديمي في جامعة السوربون…

تقرير صحفي:

استضافت مدرسة تلفيت الثانوية المختلطة/ مديرية التربية والتعليم في جنوب نابلس الكاتب والمشرف التربوي فراس حج محمد للحديث حول “أدب الأسرى، والكتابة الإبداعية”، ولمناقشة الطلاب حول اشتراكهم في مسابقة كتابة إبداعية، قصة قصيرة أو خاطرة تتناول مشاعر أمّ فلسطينية لها ابن في مقابر الأرقام، واستهدفت المحاضرة مجموعة من الطلاب المشاركين في المسابقة والمتوقع منهم…

إدريس سالم

لم يعدِ الإنسان في حاجة إلى الزحام، ولا إلى أصوات تحيط به، لتذكّره أنه غير وحيد؛ الوحشة الحقيقية لا تأتي من الغياب، إنها تأت من الحضور الفارغ، من الوجوه التي لا تشبه القلب، ومن الكلمات التي تمرّ على الروح كريحٍ باردة في ليل بلا دفء. في النهاية، لا نحتاج سوى أولئك الذين، تصبح الحياة…