بهجت حسن أحمد
ولد رشاد زازا في شمالي كردستان عام 1910 عندما كانت الدولة العثمانية المحتلة لكردستان تعاني من سكرات الموت بعد خلع السلطان عبد الحميد الثاني وتنصيب محمد رشاد الخامس سلطاناً على الدولة المتهالكة بعد انقلاب حزب الاتحاد والترقي على السلطان عبد الحميد الثاني.
في تلك الأجواء المشحونة عالمياً ممثلة بخطر قيام حرب عالمية بدأت بوادرها في حرب البلقان الأولى عام 1912 والهزيمة الساحقة للدولة العثمانية وكذلك سوء وخاصة تجاه المكونات غير التركية من قبل جمعية ترك اوجاغي التي أسسها حزب الاتحاد والترقي، وهدفه الأساسي كان صهر كل القوميات غير التركية في بوتقة الأمة التركية، هذا ما يوضح سبب تسمية الجمعية “ترك او جاغي” أي العائلة التركية،
وكان للكرد النصيب الأكبر من سياسات الاتحاديين ولاسيما الأسر الكردية التي اختارت مقاومة هذا المشروع العنصري،
مثل أسرة زازا التي ينحدر منها المرحوم رشاد حيث كان من عائلة ثرية ومعروفة في منطقة معمورة عزيز -خربيت بباكور كردستان، وهي إحدى مناطق زازا الكردية، وكان مع أفراد أسرته من المشاركين في ثورة الشيخ سعيد بيران الكوردية عام 1925 ضد القمع والوحشية التي اتبعها أتاتورك ضد الكرد.
بعد أن تمكن أتاتورك من قمع الثورة اضطر المرحوم رشاد اللجوء إلى منطقة ديرك في روج آفايي كردستان وذلك في العام 1927 ومع قدومه إلى روج آفايي
كردستان كان يفكر دوماً في مساعدة شعبه الكردي الذي عانى الأمرّين بعدما تراجعت دول الحلفاء المنتصرة عن معاهدة سيفر عام 1920 والتي ضمنت حكماً ذاتياً للكرد، أعقبتها دول الحلفاء بمعاهدة لوزان 1923 والتي حرمت الكرد من كل حقوقهم، وقسمت أراضيهم بين الأتراك والدول المستحدثة مثل سوريا والعراق.
في روج آفايي كردستان ومع فرض الدولة المنتدبة فرنسا سيطرتها على كامل المنطقة في أوائل عام 1929
بدأ رشاد دعم تنظيم Xoybûn وساعدهم
في إيصال الوثائق المهمة إلى باشور كردستان الخاضع للحكم البريطاني آنذاك
بمساعدة من ملا سعيد الهاروني من أهالي مدينة ديرك وملا حامد من أهالي قرية كر زياراتي آباسا بريف ديرك مع ما يكتنف ذلك من خطر كبير في ظل الحكم العسكري الصارم الفرنسي في روج آفا والانكليزي في باشور، ولأنه لم يكن هناك أي حزب كوردي في تلك الفترة انضم رشاد إلى الحزب الشيوعي في العام 1936 من أجل خدمة شعبه الكردي من خلال هذا الحزب وخاصة أن الشيوعية أصبحت أحد أكبر الأقطاب الحزبية في العالم آنذاك مع سيطرة البلاشفة على حكم روسيا وإسقاط الحكم القيصري وإقامة الاتحاد السوفياتي.
قصة انتسابه إلى الحزب الشيوعي بدأت مع صديقه عبدالرحمن آغا يونس وعلي زلفو اللذين زارا رشاد وأثناء ذهاب رشاد وعبدالرحمن إلى وداع علي زلفو قامت الاستخبارات التركية باعتقال كل من رشاد وعلي زلفو ونقلهما إلى سجن آمد-ديار بكر حيث بقي رشاد حوالي ستة أشهر في ذلك السجن، وهناك أعجب رشاد بالشيوعيين ومبادئهم وخاصة أنهم لم يغيروها على الرغم من التعذيب الشديد الذي تعرضوا له على يد رجال الجندرمة التركية، فقرر أن ينضم إلى هذا الحزب وأن يتخذ من هذا الانتساب وسيلة لمساعدة شعبه الكردي، وبعد ذلك تم اطلاق سراحه بعدما تعرف عليه أحد حراس السجن الكرد وعرف عائلته، فطلب من رشاد ان يفتعل المشاكل في السجن حتى يتم النظر في قضيته وفعلاً أطلقت السلطات التركية سراحه في العام1936وسلمته مباشرة إلى السلطات الفرنسية حيث قبلت بعودة رشاد إلى منطقة ديركه حمكو وفيها عاد رشاد إلى متابعة أعماله الزراعية في باجريق وكاني نعمة بريف ديرك، ولكن في الوقت نفسه كثف نشاطه السياسي ودعم شعبه بالمال قدر استطاعته.
في العام1950 انتقل رشاد إلى قرية روباريا التي استأجرها من نايف باشا بعقد زراعي مدته 10أعوام لأنه كان لرشاد يد بيضاء وأعمال خالدة لأهله الكرد في قرية روبايا كتبته كتب التاريخ بحروف من ذهب؛ فبنى مدرسة في القرية على نفقته الخاصة وطلب لطلاب المدرسة من أبناء القرية أفضل المعلمين، لا بل أمّن للطلاب والمعلمين المأكل والملبس والمسكن بشكل مجاني في خطوة
قل نظيرها في ذلك التاريخ، وتعتبر بحق وسام شرف وفخر لهذا الشخص الكريم،
ومن ثم أراد أن يطور من الزراعة حتى تعم الفائدة جميع الفلاحين وأهل المنطقة، فقام باستيراد الجرارات والحصادات إلى المنطقة حيث كانت الدول الشيوعية الاشتراكية تساعد من خلال الأحزاب الشيوعية والتي كان رشاد عضواً فيها، وقد ساهمت تلك الآلات الحديثة في زيادة الإنتاج الزراعي وتوفير فرص العمل للشباب الكورد وبعد ذلك تخلى رشاد عن قسم من الأراضي التي استأجرها وقدمها للفلاحين الكورد دون مقابل مادي بقصد أن يستثمرونها وتعم عليهم الفائدة.
أصبح منزل رشاد مأوى وملاذاً يلجأ إليه الكورد المناضلون ضد الأنظمة الغاصبة لكردستان، فقد قصد منزله كل من
الشاعر الكردي هجار الذي حارب نظام الشاه الغاصب لشرقي كردستان
وكذلك استقبل السياسي الكردي نوري شاويس القادم من باشور كوردستان، وكان يزوره باستمرار كل من الشاعر جكرخوين ورشيد كرد إضافة الى السياسي الكردي عثمان صبري حيث تكفل رشاد بمساعدتهم على الدوام مادياً نظراً لما كانوا يعانونه بسبب ملاحقة السلطات الحاكمة في سورية لهم بشكل مستمر.
في عام1957انتقل رشاد إلى قرية خانه سري بريف ديرك بعد أن اشترى نصف القرية، وقام بتوزيع الأراضي على الفلاحين الكرد، وسافر بنفس العام إلى موسكو لحضور مهرجان الشبيبة العالمي، والتقى هنالك بالملا مصطفى البارزاني أحد أبرز القادة الكورد في العصر الحديث، وقد تأثر رشاد بشكل كبير بشخصية الملا مصطفى البارزاني، وكذلك التقى رشاد في موسكو بالشاعر التركي ناظم حكمت الذي كان قد لجأ إلى موسكو بعد محاربته قمع وسياسات التي اتبعها أتاتورك والحكام الذين أتوا من بعده في حكم تركيا بالحديد والنار، وقد تعجب ناظم عندما تكلم رشاد معه بالتركية وبطلاقة، فأخبره رشاد أنه من باكور كردستان واضطر اللجوء إلى روج آفا هرباً من قمع وعنف السلطات التركية.
في العام 1960 تم اعتقال رشاد من قبل نظام جمال عبد الناصر العروبي، وتم إطلاق سراحه، وفي عام 1961
قرر رشاد أن يدعم شعبه الكردي من خلال دعم ممثل البارتي ورئيسه الدكتور نور الدين زازا في الانتخابات البرلمانية السورية بعد الانفصال عن مصر حتى يكون للكرد صوت في البرلمان السوري، وقدم مبلغاً وقدره 17.000ليرة سورية لدعم الحملة الانتخابية، وكان مبلغاً كبيراً آنذاك، ومع انطلاقة ثورة الملا مصطفى البارزاني في باشور كردستان عام 1963ومساندة الحكومة السورية العراق في قمع الثورة الكردية من خلال إرسال جزء من قواته إلى العراق سارع رشاد إلى دعم أبناء شعبه في ثورتهم بكل ما يملك، فأرسل اثنين من رجاله وهما أحمد رمو وحمزة العلي إلى الحدود المصطنعة بين باشور وروج آفا لنقل الثوار المصابين على الدواب إلى منزله، ومن ثم إرسالهم الى موسكو من أجل تلقي العلاج حيث استغل رشاد عضويته في الحزب الشيوعي لمناصرة قضايا شعبه، ولم تجرؤ الحكومة السورية آنذاك على معاقبة مباشرة لخوفها من غضب موسكو التي لم تكن تتوانى في الذود عن الأحزاب الشيوعية في أي بقعة من العالم آنذاك، وكان منزل رشاد يحتوي على مخبأ سري حيث يتم إخفاء الثوار والملاحقين حتى يجدوا الفرصة للخروج من قبضة الجلادين، ولكن البعثيين العروبيين لم يكن لهم أن يقبلوا أن تمر مساعدة رشاد للثورة دون أن يصبوا غلهم وحقدهم عليه فما كان منهم إلا أن أصدروا قراراً بسحب الجنسية السورية من رشاد وكذلك مصادرة كل أملاكه في قريتي جلو سفان وخانه سري تحت ذرائع واهية أنه من أقارب المناضل الدكتور نورالدين زازا، ولكن السبب الأساسي كان دعم ثورة الملا مصطفى بارزاني.
تأثر أصدقاء رشاد المخلصين لما أصابه من غبن وحكم جائر ولاسيما صديقه
يوسف فيصل الذي كان وزيراً آنذاك والذي أراد رفع الظلم عنه قدر استطاعته، فأعاد لرشاد جنسيته وكذلك جزءاً من أملاكه المصادرة وهي حوالي149شوال في قرية خانه سري، أما باقي الأملاك في جلو سفان وخانه سري فقد بقيت مصادرة من قبل دولة البعث.
كان رشاد مثالاً للكردي المحب والمضحي من أجل شعبه، فعلى الرغم من كل صنوف العذاب التي تلقاها لا لشيء إلا لأنه كردي يعمل من أجل شعبه، من تعذيب الأتراك إلى أقبية مخابرات جمال عبد الناصر مروراً بأديب الشيشكلي، وصولا إلى أبواب الجحيم البعثية المقيتة، وعلى الرغم من كل ذلك بقي متمسكاً بمبادئه التي تربى عليها وأورثها الى أبنائه وبناته وأحفاده، وكان محباً لكل كردي وخاصة المناضلين والثوار من أبناء هذا الشعب المظلوم أمثال: دكتور أحمد نافذ زازا، د.نوري ديرسمي، د. نورالدين زازا، عارف بك وابنه د. دارا زازا، رشيد كرد، المناضل عثمان صبري وابنه ولاط وكذلك جميل مرعي والشاعر القدير جكرخوين.
في ربيع عام 1976وتحديداً في يوم 17 نيسان فاضت روح رشاد الطاهرة بعد صراع مرير مع مرض عضال ودفن في قريته خانه سري، لتنتهي قصة حب وعشق بين أرض كوردستان التي نبتت فيها هذه الروح الطاهرة وارتقت السماء، سحاب الرحمة والسكينة عليها.
…………
- هذا المقال موجود في كتاب” رجال لم ينصفهم التاريخ الذي صدر مؤخراً بمشاركة بعض الكتاب الكرد.