حين يسقط الجسد وتنهض اللوحة

ماهين شيخاني

كانت الورشة ساكنة، تشبه لحظة ما قبل العاصفة.

الضوء الأصفر المنبعث من المصباح الوحيد ينساب بخجل على ملامح رجلٍ أنهكه الشغف أكثر مما أنهكته الحياة. أمامه قالب معدني ينتظر أن يُسكب فيه الحلم، وأكواب وأدوات تتناثر كأنها جنود في معركة صامتة.

مدّ يده إلى البيدون الأول، حمله على كتفه بقوة، وسكبه في القالب كمن يسكب روحه في الطين. كان يعرف أن الوقت ضيق، وأن المادة إذا تصلبت قبل أوانها، فإن اللوحة التي حلم بها لأسابيع ستتحول إلى كومة جافة بلا حياة.

انتقل إلى البيدون الثاني بخطى واثقة. لكن الفن — كما الحياة — لا يعطي جماله من دون اختبارٍ مؤلم.

في الخطوة الثانية، خانته الأرض التي سال عليها بعض الجبلة، فزلّت قدمه وانقلب جسده إلى الخلف. ارتطم بالأرض بقوةٍ أخرجت من صدره أنينًا مكتوماً. سقط كل شيء في لحظة واحدة… البيدون، الجسد، والطمأنينة.

فتح عينيه، والبرد يتسلل إلى ظهره من أرضية الورشة. لمس رأسه، ثم تمتم بحساب بسيط في ذهنه ليتأكد أن الوعي لم يخذله. تنفس بعمق… الألم حاضر، لكنه ليس قاتلًا.

رفع بصره، فرأى اللوحة التي بدأها بالرولييف تقف أمامه في نصف خلقتها، صامتة كأنها تراقبه. كانت تناديه من غير صوت، وتذكّره أن الفن لا ينتظر المترددين.

صرخ فجأة:

«آه… البيدون الثالث..!.»

قفز واقفاً رغم الألم الذي يسري في ظهره كشرارة، واندفع نحو الزاوية. رفع البيدون كمن يرفع قلبه، وأكمل السكب بيدين ترتجفان من التعب لا من الخوف. كانت كل قطرة تسقط في القالب تمتزج بالألم، بالعرق، وبالإصرار.

حين انتهى، جلس على الأرض. لم يعد يهمه ألم الظهر أو الجبلة التي التصقت بملابسه. كانت عينه على اللوحة التي أخذت ملامحها تتشكل ببطء كأنها تنبض بالحياة.

في تلك اللحظة أدرك أن الفن ليس لوحة جميلة على الحائط…

بل سقوط وقيام. وجع وولادة.

ومن بين العرق والوجع، خرجت لوحة مذهلة، فيها أثر الألم… ولمعة الانتصار.

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صدر حديثاً عن منشورات رامينا في لندن كتاب “كلّ الأشياء تخلو من الفلسفة” للكاتب والباحث العراقيّ مشهد العلّاف الذي يستعيد معنى الفلسفة في أصلها الأعمق، باعتبارها يقظةً داخل العيش، واصغاءً إلى ما يتسرّب من صمت الوجود.

في هذا الكتاب تتقدّم الفلسفة كأثرٍ للحياة أكثر مما هي تأمّل فيها، وكأنّ الكاتب يعيد تعريفها من خلال تجربته الشخصية…

غريب ملا زلال

بعد إنقطاع طويل دام عقدين من الزمن تقريباً عاد التشكيلي إبراهيم بريمو إلى الساحة الفنية، ولكن هذه المرة بلغة مغايرة تماماً.

ولعل سبب غيابه يعود إلى أمرين كما يقول في أحد أحاديثه، الأول كونه إتجه إلى التصميم الإعلاني وغرق فيه، والثاني كون الساحة التشكيلية السورية كانت ممتلئة بالكثير من اللغط الفني.

وبعد صيام دام طويلاً…

ياسر بادلي

في عمله الروائي “قلعة الملح”، يسلّط الكاتب السوري ثائر الناشف الضوء على واحدة من أعقد الإشكاليات التي تواجه اللاجئ الشرق أوسطي في أوروبا: الهوية، والاندماج، وصراع الانتماء. بأسلوب سردي يزاوج بين التوثيق والرمزية، يغوص الناشف في تفاصيل الاغتراب النفسي والوجودي للاجئ، واضعًا القارئ أمام مرآة تعكس هشاشة الإنسان في مواجهة مجتمعات جديدة بثقافات مغايرة،…

خالد بهلوي
يُعدّ مهرجان الشعر الكردي السنوي واحدًا من أبرز الفعاليات الثقافية التي تُعنى بالإبداع الأدبي في المجتمع الكردي. ويُقام هذا المهرجان كل عام، مستقطبًا شعراء ومثقفين، ليشكّل منصةً فريدة تجمع بين الكلمة الحرة والتراث والهوية الكردية.
ليست مهرجانات الشعر الكردي مجرّد فعاليات أدبية تُقام سنويًا، بل هي رمزٌ من رموز التعبير عن الدور الثقافي لشعبٍ حُرم…