الشيخ صبحي نابو*
يمثل موضوع مكانة الشمس في الإيزيدية واحدة من أكثر المواضيع التي شابها الالتباس وسوء الفهم، وغالباً ما كان ذلك بسبب تباين الآراء داخل الوسط الإيزيدي نفسه. فحين يسأل أحدهم عن علاقة الإيزيديين بالشمس، تأتي الإجابات متباينة بين من يرى أن الإيزيديين “أبناء الشمس”، ومن يعتقد أنهم “يعبدونها”(شمس به ره ست) ، أو أن الشمس هي “قبلة صلاتهم”، بل إن بعضهم يظن أن الملَك شيشم الذي يمثل رمز الشمس هو الخالق نفسه، وإلخ . هذه التأويلات الشخصية والاجتهادات غير المنضبطة ساهمت في تعقيد الصورة وإرباك الفهم الحقيقي لطبيعة المعتقد الإيزيدي.
في معظم الأديان هناك مراجع وهيئات دينية تتولى تفسير العقيدة وبيان رموزها، أما في الإيزيدية فكثيراً ما يتناول غير المختصين الشرح والتأويل وفقاً لأفكارهم الخاصة. كما أن عدداً من رجال الدين غير المؤهلين، الذين يفسرون ماهية الإيزيدية اعتماداً على اجتهادات شخصية أو بدافع إرضاء أطراف أو شخصيات معينة، كان لهم دور واضح في تكوين صورة نمطية مشوّهة عن جوهر الإيزيدية .
وانطلاقاً من كون المجلس الديني الإيزيدي الجهة المستقلة الوحيدة المخولة بتوضيح خصوصيات الديانة ورموزها، بعيداً عن التأويلات المغلوطة والتوظيف السياسي، نود أن نبيّن للإيزيديين قبل غيرهم مكانة الشمس في ديانتهم النورانية.
تعد ديانة الإيزيديين من أقدم الديانات التوحيدية في العالم، وهي ديانة غير تبشيرية تحافظ على تقاليدها داخل مجتمعها. تعود جذورها إلى آلاف السنين، وتحمل تصوراً خاصاً للتوحيد يختلف في جوهره وتفاصيله عن المفهوم السائد في الديانات الإبراهيمية الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام). ورغم ما لحق بهذا التصور من التباس عبر الزمن، إلا أنه يقدم نموذجاً فريداً في فهم العلاقة بين الخالق والملائكة والنور الإلهي.
رمزية الشمس في العقيدة الإيزيدية
في الإيزيدية، يصنف الشمس رمزاً لأحد الملائكة النورانيين ومصدراً للحياة والنور على الأرض. فهي ليست مجرد جرم سماوي، بل تجلي لقدرة الخالق وعظمته، وترتبط بالملَك شيشمس، أحد الملائكة السبعة الذين يديرون شؤون الكون بأمر من الله. ولهذا يتوجه الإيزيديون بصلواتهم نحو الشمس خارج المعبد، تعبيراً عن ارتباطهم بالنور الإلهي ومصدر الحياة.
والشمس تمثل المذهب الوحيد للإيزيديين باعتبارهم يتبعون النور، إذ جعلت من ديانتهم وحدة متماسكة لا تعرف الانقسام إلى مذاهب أو طوائف متناحرة، كما هو الحال في أديان أخرى.
أما الطبقات الدينية الثلاث (الشيخ والبير والمريد) فهي ليست مذاهب، بل تنظيمات إجتماعية روحية تحفظ التوازن الداخلي للمجتمع، ولكل منها واجبات دينية و إجتماعية محددة.
تتجلى قدسية الشمس في العمارة الدينية الإيزيدية، وخاصة في معبد لالش النوراني، الذي تُزين قبابه المميزة برموز مستوحاة من أشعة الشمس وحركتها.
القباب المخروطية ترمز إلى شعاع النور الإلهي النازل من السماء إلى الأرض، دلالة على الاتصال بين الخالق والمخلوق.
النتوءات المخروطية (الزُنوج) ترمز إلى أشعة الشمس، وعددها اثنا عشر تمثيلاً لأشهر السنة.
لكل زنج وجه وظهر (12×2=24)، في إشارة إلى ساعات الليل والنهار.
الطوق الدائري أسفل الزنوج يرمز إلى سرمدية الخالق الذي لا بداية له ولا نهاية.
أما الزوايا الأربع في أسفل القبة فترمز إلى الفصول والجهات الأربع.
هذا التكوين المعماري يعكس الدورة الكونية للأرض حول الشمس وما يرافقها من تعاقب الليل والنهار وتبدل الفصول، كما أن كثيراً من الأعياد الإيزيدية ترتبط بالظواهر الفلكية مثل الانقلابين الصيفي والشتوي والاعتدالين الربيعي والخريفي، في انسجام تام بين العقيدة والطبيعة.
يُعد لالش النوراني مهد الخلق وخميرة الأرض التي أنزلت عليها بإرادة الله، وفيه تقع “كانيا سبي” (العين البيضاء)، وهي قبلة الدعاء لدى الإيزيديين داخل المعبد حصراً. أما خارج لالش، فيتوجه الإيزيديون في صلواتهم نحو الشمس بوصفها رمزاً للحياة والإشراق الإلهي، وعلامة على استمرار الصلة بين الإنسان والخالق.
في الختام نقول
إن رمزية الشمس في الإيزيدية لا تقتصر على بعدها الكوني أو الطبيعي، بل تعبر عن عقيدة نورانية ترى في النور سر الوجود، وفي الوحدة أساس السلام. ومن هذا الفهم العميق تنبع خصوصية الديانة الإيزيدية، التي جعلت من الشمس تجلياً لجلال الخالق، ومن النور سبيلاً يهدي الإنسان إلى الحقيقة والصفاء.
الشيخ صبحي نابو رئيس الهيئة الإدارة للمجلس الديني الإيزيدي.
* رئيس المجلس الديني الإيزيدي