د. محمود عباس
حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.
قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة، وتُروى بلسانٍ حكيمٍ يُشبه روحها.
تبيّن لاحقًا أنّ كاتبتنا تعاني من مرضٍ أرهقها، فاختارت الصمت بدل العجز، ودخلت المشفى لتواجه الألم بصبرٍ نادر. نسأل الله أن يمنّ عليها بالشفاء والعافية، وأن تعود قريبًا إلى بيتها وقرّائها، كما عهدناها، قويةً بالقلم، مشرقةً بالكلمة، وعابقةً بالحبّ الإنسانيّ الذي يملأ حروفها.
تنحدر نسرين من عائلةٍ كوردية وطنيةٍ معروفة في مدينة قامشلو، حيث عاشت طفولتها الأولى قبل أن تهاجر مع زوجها الطيب الأخ حسن جمعة إلى مملكة النرويج. هناك واصلت الكتابة والنشر رغم الغربة، حاملةً في وجدانها ذاكرة الوطن وهموم الإنسان، وهي من أوائل النساء الكورديات في غربي كوردستان اللواتي حصلن على شهاداتٍ جامعيةٍ عليا، وواصلت الكتابة حتى في أشدّ مراحل القمع، حين كان النظام المجرم البائد يخنق الحراك الثقافي والسياسي للشعب الكوردي.
ورغم التضييق، كانت تنشر بين الحين والآخر نصوصًا قصيرة تتسرّب من بين أسوار الخوف كضوءٍ صغيرٍ عنيدٍ في العتمة، إلى جانب عملها كمدرّسةٍ في مدارس قامشلو.
عرفتُها في كلية الآداب – قسم الجغرافيا بجامعة دمشق، حيث جمعتنا قاعات الامتحان أكثر من مرة.
أتذكر ذلك اليوم في السنة الرابعة، حين تقاطع حدسنا حول سؤال الامتحان الرئيس، فراجعناه سويّة قبل الموعد بربع ساعة.
وحين جاء السؤال كما توقعنا تمامًا، نسيتُ نصف الإجابة في منتصف الطريق! كانت نسرين تجلس خلفي، فالتفتُّ إليها، أفردت الورقة برفقٍ كأنها تمدّ لي طوق نجاةٍ صامتًا، لأتذكر ما نسيت.
موقفٌ بسيطٌ لكنه عالقٌ في الذاكرة، روح التعاون والنقاء الذي لا تصطنعه الكلمات.
ولها معي ذكرى أخرى أكثر وجعًا ودفئًا.
كان ذلك في مطار قامشلو، حين التقينا صدفةً أنا وهي وزوجها الأخ حسن، وكانت نسرين في شهور حملها الأخيرة، متجهةً إلى دمشق لتقديم امتحانها الأخير، فيما كنتُ عائدًا من إجازةٍ قصيرة أثناء خدمتي العسكرية، وأنا كنت حينها أعاني من رملٍ في الكلية.
جلسنا نتبادل الحديث بنكهة الحنين، وفجأة بدأ الألم، ويتصاعد في داخلي حتى صار موجعًا لا يُحتمل.
لاحظت نسرين تغيّر ملامحي، بعد قرابة ربع ساعة من الطيران، وسألتني بلطفٍ إن كنتُ أعاني من الطيران، فابتسمت نفيًا، لكنها أدركت الحقيقة من صمتي، فبادرت بطلب المساعدة من طاقم الطائرة، وشرحت لهم وضعي. تجاهلت المضيفة طلبي بادعاء أنه لا يوجد طبيب بين الركاب، دون أن تسأل، فكانت ساعة الطيران كرحلةٍ أبديةٍ من العذاب.
عند الهبوط، حاولتُ حمل حقيبتها رغم ألمي، لكنني كنت بالكاد أتماسك. صعدنا الباص المتجه إلى المدينة، وكانت وجهتي مشفى المجتهد، وهو الأقرب في طريقنا.
وفي منتصف الطريق داهمني الألم بشدّة، طلبت من السائق التوقف وأنا أعتذر منها بخجلٍ، فقد كنت أشعر بالأسف لأنني لم أستطع أن أكون السند الذي وعدت به الأخ حسن، لكنها كانت هي من أسندتني طوال الرحلة بابتسامتها وهدوئها، رغم تعبها وحملها.
أنزلني السائق بسرعة، وظنّ أن الراكبة الحامل هي من تعاني الألم لا أنا، فازداد شعوري بالامتنان لها ولتلك اللحظة التي لا تُنسى.
وللحظ حصلت على سيارة أجرة من على طريق المطار بعد دقائق، وصلت إلى مشفى المجتهد وكان الأقرب في دربي، وأخذت الإبرة التي كنت أحملها معي، وبعد نصف ساعة تلاشى الألم، خرجت نحو الدار لكن القلق بدأ يأكلني على نسري.
كيف وصلت إلى البيت؟ من ساعدها في حمل الحقيبة؟ كيف صعدت الجبل وحدها؟
تلك الأسئلة بقيت ترافقني طويلاً، حتى التقيتها بعد سنوات، خلال إحدى زياراتي من موسكو، الاتحاد السوفيتي، أثناء دراستي للدكتوراه.
رأيتها مع طفلها أو طفلتها، لا أتذكر، ومعها أختها أمام مكتبة اللواء في قامشلو.
ضحكنا طويلًا ونحن نستعيد تلك الذكرى، وقالت إنها وصلت بالسلامة، لكنها لم تنسَ ذلك اليوم ولا نظرتي المرتبكة في الطائرة. حتى الأخ المرحوم (كوركين ملا حسن كورد) صار يرويها لاحقًا بمزيجٍ من الطرافة والعطف، لأنها كما أظن نزلت في بيته حينها.
واليوم، بعد مرور كل تلك السنوات، وبعد أن فرّقت بيننا المسافات، هي مع عائلتها في النرويج وأنا في أمريكا، عادت الذكريات لتطرق القلب مع خبر مرضها.
خوشكا نسرين.
تُعانين الآن من ألم الجسد، كما نعاني نحن من ألم الغربة.
وبيننا محيطاتٌ تمنعني من زيارتك في المشفى، لأردّ لكِ ولو القليل مما قدمتِه لي يومها من مساعدة نفسية ومواساةٍ في الطائرة والباص.
كم وددتُ لو أجلس الآن أنا والأخ حسن إلى جوارك، كما كنا على طاولة مطار قامشلو، نعيد تلك الذكريات القديمة لنخفف عنك شيئًا من الأسى.
يا صديقتي التي اختبرتِ الغربة متأخرا، ومنذ تلك الرحلة الأولى التي جمعتنا نحو دمشق، كنتِ وما زلتِ رمزًا للإصرار على الحياة رغم القيود، والإبداع رغم الصمت.
ها نحن اليوم نعيش الغربة ذاتها على طرفين من العالم، لكنّ نعمة التكنولوجيا جعلتنا نتقاطع من جديد عبر الكلمة.
لقد شرّفتِني قبل سنتين بطلب كتابة مقدمة مجموعتك القصصية الأولى، وما زلتُ أنتظر الثانية التي أظن أنّ المرض أوقفك عن إتمامها.
وأنا على يقين أنكِ ستنهضين قريبًا لتكمليها، لأنّ من يكتب بالصدق لا يُهزم، ومن يجعل من الكلمة وطنًا لا يعرف الغياب.
أتمنى من الله العلي القدير أن يمنحك الصحة والعافية والطمأنينة،
وأن تعودي إلى زوجك الكريم، وعائلتك، وإلى قرّائك الذين ينتظرونك،
وإلى قلمك الذي لا يعرف التراجع، بل يكتب حتى في الألم.
لكِ منّي، ومن كلّ أبناء الحراك الثقافي، ومن كلّ قرائك، الدعاء الصادق والمحبّة الكوردية العميقة.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
22/0/2025م