عبدالعزيز قاسم
(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).
وهذه هي نص المداخلة:
من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان، غربي كوردستان، شرقي كردستان (اورمية) و قفقاسيا”، لاحظت أن الشعر الكردي المكتوب بالارامية لشعراء من (بادينان) يتمتع بذائقة شعرية وابداع أكثر من الشعر المكتوب باللاتينية (غرب وشمال كردستان وقفقاسيا)، قد يعود هذا الأمر لدرجة ما الى اعتماد اللغة الكردية منذ عام ١٩٧٠ والى يومنا كلغة رسمية في إقليم كردستان وتدريس وتعليم اللغة الكردية في مدارس وجامعات بادينان بشكل اكاديمي، أو ربما يكون للأبجدية الكردية (الآرامية) المستخدمة هناك أثر في في ذلك، لأن الأبجدية اللاتينية التي استخدمت لتدوين الكرمانجية في غرب وشمال كردستان وكذلك في قفقاسيا تم بالدرجة الاولى بغرض تسهيل التعليم وقطع التبعية اللغوية للغة العربية وبالتراث الصوفي والديني، مما شكل قطعية مع الشعر الكلاسيكي الكردي (جزيري، خاني، فقي تيران…)، واتجاها نحو الشعر الواقعي والسياسي أكثر من الروحي والغنائي، وهذا التحول جعل الشعر الكردي اللاتيني اقرب إلى النثر وأكثر واقعية وأقل غنائية، بحيث يمكن القول إن للكتابة باللاتينية أثرا واضحا في إضعاف الموسيقى الداخلية للشعر الكردي، فالأبجدية اللاتينية الحالية رغم تطورها تواجه بعض الصعوبات في تمثيل الأصوات الكردية وهي بحاجة إلى احرف ورموز إضافية لتناسب اللغة الكردية.
وهنا لابد من التذكير إن معظم شعراء غربي كردستان الكبار ومنهم الشاعر والأديب جكرخوين وحسب ما أخبرني الشاعر كوني رش، كان يكتب قصائده بالخط الآرامي وكذلك الشاعر تيريژ والشاعر عمر لعلي وشعراء آخرين من الذين تميزت قصائدهم بذائقة شعرية .. فالكتابة الآرامية يمتاز بالتماسك البصري والقابلية للعروض والطابع الصوفي، ويمتاز بمرونة شكلية وغنى صوتي مما يخلق إمكانيات موسيقية للشاعر يعبر عن الروح الشرقية الغنائية للشعر الكردي الكلاسيكي، أما الأبجدية اللاتينية وإن كانت أدق من حيث التمثيل الصوتي والنطقي، فإن طبيعتها الصلبة والمجزأة القائمة على فصل الضمائر واللواحق جعلت النصوص الشعرية تفقد شيئا من انسجامها الموسيقي وتماسكه الايقاعي، كما مثل الانتقال الى الكتابة باللاتينية قطيعة نسبية مع التراث الشعري الصوفي والوجداني ومع الادب الكلاسيكي الكردي المدون بالارامية أو الخط العربي كما أشرت إليه سابقا.
لاشك فيه ان التحول إلى الأبجدية اللاتينية يعد إحدى الظواهر اللغوية والثقافية الاكثر عمقا في تاريخ الادب الكردي الحديث في غربي كردستان، فالتبدل في نظام الكتابة لم يكن مجرد مسألة تقنية أو صوتية، بل مس جوهر التعبير الجمالي ذاته، وترك أثرا سلبيا واضحا على بنية الشعر الكردي من حيث الايقاع والموسيقى والهوية الرمزية للنص.
ولعل تجاوز الأثر السلبي للكتابة باللاتينية على الإيقاع الشعري الكردي لا يتحقق بمجرد العودة إلى الخط الأرامي، بل عبر تطوير وعي لغوي وإبداعي جديد يوائم بين الدقة الصوتية التي تمنحها الأبجدية اللاتينية وبين الحس الموسيقي الذي يحتضنه الادب الشفاهي والكلاسيكي الكرديين طبيعيا، ويمكن تحقيق ذلك من خلال إعادة توظيف الإمكانات الإيقاعية الكامنة في اللغة الكردية، كما يمكن للشعراء والنقاد تبني مقاربات هجينة من التجارب الشعرية في بهدينان واورمية.
وهنا لابد للشعراء ڕوژاڤا، تجاوز هذا الأثر، عبر بناء الحس الايقاعي داخل الكتابة الكردية اللاتينية نفسها، نحو بناء إيقاع بصري بديل يقوم على التوازن بين الشكل الكتابي والروح الموسيقية المتأصلة في الوجدان الكردي، وبهذا المعنى لاتعد الأبجدية اللاتينية عائقا أمام تطور الشعر الكردي، بل يشكل تحديا إبداعيا نحو تجديد لغته وبنيته الجمالية، إذا ما أحسن استثمارها بوعي فني ومعرفي متكامل.
فالشاعر الكردي المعاصر أمام خيارين لا ثالث لهما، اما ان يكتب لنفسه قصائد ضعيفة، أو يكون قادر على استثمار أدوات جديدة لإحياء الموسيقى الداخلية للنص وخلق الجماليات الكتابية والروح الشعرية؛ أما من خلال تطوير نظام كتابي هجين يوظف بعض العلامات الصوتية أو توظيف الرموز الطباعية لإعادة التوازن بين الدقة اللغوية والإيقاع الموسيقي. كما أن النقد الأدبي المعاصر مدعوّ إلى قراءة النص الكردي اللاتيني بوصفه نصا ذا إيقاع بصري ومعنوي، لا صوتي فقط، ما يفتح المجال أمام أنماط جديدة من الجماليات تتناسب مع روح العصر.
وبذلك، لا تعدّ الكتابة اللاتينية عائقا أمام الإبداع الشعري الكردي، بل حافزا لإعادة اكتشاف الإيقاع عبر الكتابة الحديثة، بما يضمن استمرارية الهوية الشعرية الكردية في إطار لغوي متجدد ومعبّر عن الذات الثقافية المعاصرة.