قصص قصيرة جداً

فواز عبدي

ما عرفتك

بعدما رجعت من الحفلة منهكاً، وخلعت ملابسي كمن يتخلص من تهمة، فقد كان جسدي يئن تحت وطأة الرسميات.. وقبل أن أقفل التلفون وأذهب إلى فراشي، رن جرس الهاتف، نظرت فإذا هي صديقة قديمة لم أرها منذ مجيء حفيدها الأول قبل عشر سنوات..

تذكرت بشرتها الحنطية بلون حقول الجزيرة، وعينيها البنيتين كقهوة الصباح وأنفها الشبيه بمنقار الصقر..

لكنها لم تدعني أسترسل في التذكر أكثر من ذلك.. فمع نطقي لكلمة ألو.. بدأت تلومني مبديةً انزعاجها بسبب أنني رأيتها في الحفل ولم أسلم عليها..

أقسمت لها أنني لم أرها، إلا أنها أصرت على أننا تقابلنا وجهاً لوجه، وأنها ابتسمت لي مستعدة لرد السلام، إلا أنني سلمت على صديقي الواقف قريباً منها!

حاولت التذكر لكن عبثاً.. أخبرتني بكل تحركاتي وكأن كاميرا تتبعني وتسجل.. ومع ذلك اعتذرت لها، مبدياً “توبتي” في ألا أعيدها..

خاصمني النوم تأييداً لها..

لم أجد بداً من أن أذهب إلى صفحتها في الفيسبوك علها تكون قد نشرت صورا لها في الحفل، إذ لا وسيلة للتأكد غير ذلك، فهي مغرمة بنشر صورها في المناسبات..

وبعد أن تصفحت جدارها.. اتصلت بها..

قالت مباشرة: ها .. لا بد أنك تأكدت مما قلت لك..

أجبتها مع ضحكة خفيفة: قبل أن أقول لك أي شيء أريد أن تجيبي على سؤالي بكل صدق وصراحة.

قالت: تفضل.

قلت: بشرفك هلق لما شفتي العيون الخضر والعيون والبشرة الشقراء والأنف بحجم زر القميص في االمراية.. عرفت حالك بعد العملية؟!

كان جوابها ضحكة طويلة.

 

كل التضامن

استيقظ سروك باكراً، كما يفعل كلما شعر أن البلاد تحتاجه أكثر مما يحتاج –هو- إلى النوم. ومع قهوة الصباح تصفح وسائل التواصل الاجتماعي يتأمل صورته التي نشرها البارحة وهو يزرع شتلة زيتون بعد تهديدات جديدة من العدو.. وقد غزت صورته صفحات فيسبوك وتيك توك وإنستغرام وتلغرام وغيرها..

فجأة، وقع نظره على منشور لكاتب معروف بدس أنفه في كل شاردة وواردة.. ويكتب في كل مناسبة و حتى من دون مناسبة (كل التضامن مع جنابى سروك في هذه المرحلة الحساسة).

ابتسم سروك ونادى مدير مكتبه وسأله:

  • هذا الكاتب، أليس هو نفسه الذي تضامن معنا في أزمة الطحين، ثم في أزمة الخبز، ثم في أزمة الطحين الثانية؟.

أجاب المدير: نعم سيدي.. هو ذاته.

  • اتصلوا به فوراً.. نحتاج إلى تضامنه معنا في أمر سري..
  • حاضر سيدي..

بعد دقائق، تم الاتصال:

  • ألو… من معي؟
  • مدير مكتب سروك.
  • يا أهلاً يا ألف أهلاً.. شرف كبير لي..
  • بصراحة جنابى سروك كلفني لأتصل بك.. ويطلب حضورك على وجه السرعة.. نحتاج تضامنك في أمر سري.
  • هاه! هيه؟ امم
  • ما بك تلعثمت؟
  • خجلان أصارحك.
  • لا داعي للخجل.. قل ما تريد.
  • بصراحة ما معي حق التذكرة.. فأنا لاجئ في النرويج كما تعرف.. وأعيش على صندوق التضامن الأوروبي ..

صمت الهاتف.

صمت مدير المكتب.

صمت التضامن.

صمت الاتحاد الأوروبي.

صمت سروك، متأملاً، يقول لنفسه: حتى التضامن يحتاج إلى تمويل.

 

الرفاق

في المساء، تجمعوا في الغرفة القديمة.

الطاولة المتآكلة نفسها، الصور الباهتة نفسها على الجدران، والأناشيد المغبرة نفسها على الرفوف… كأن الزمن توقف هنا.

طرق الأول الطاولة بأصابعه، وقال بلهجة جادة:

– نحتاج إلى وحدة الموقف.

قهقه الثاني بسخرية:

– أي موقف؟ حين جُعنا معاً وتشاجرنا على لقمة؟ أم حين تبعثرنا كفتات الخبز؟ أم حين انقسمنا على الكعكة؟!

أدار الثالث وجهه نحو الجدار، حيث صورة قديمة لهم. وجوههم فيها مشتعلة بالأمل، وعيونهم تتطلع إلى أفق بعيد.

صمت، ولم ينبس.

همس الرابع بصوت خافت، كأنه يخاطب نفسه:

– السياسة لا تعني أن نبقى كما كنا، لكنها لا تعني أيضاً أن نصبح ما لم نكن.

ساد الصمت.

في الزاوية، جلس الخامس منعزلاً. لم يشارك في النقاش، ولم يرفع عينيه عن هاتفه.

شيب غطّى رأسه، ورجلاه بالكاد تحملانه. كان يحسب شيئاً، أو ربما يهرب منهم.

سأله أحدهم بنبرة متعجبة:

– لماذا أتيت إلينا أصلاً؟

أجاب دون أن ينظر إليهم، بصوت جاف كالتراب:

– دُفِعتُ لأكون هنا.

تجمّدت الأنفاس.

نظر الأول إلى الخامس، ثم أطفأ الضوء.

جلسوا في العتمة التي بدت وحدها الصادقة… وكلٌّ يرى فيها ما يشبهه.

 

فراغ

قرية تحيط بها ظلال الأساطير، نساؤها يروين حكاية الحب دون أن يلمسهن أحد؛ فالحب حين يأتي كافتراس لا يكون سوى موت مبكر للقصص وللنساء. وكان في القرية كونت يسير في القاعة الضيقة، يبتسم بأناقة معهودة، لكنها ابتسامة تهمس بخبث ومكر: فهو مالك كل أنواع المفاتيح، وبإمكانه أن يفتح أبواب الكهف لكل امرأة. وحين دخلت الحكاية في ممرٍّ مظلم طويل دبّ الخوف في القلوب، وراح الكونت يختار ضحاياه من ركائز الأسطورة: امرأةٌ تذوب في الحكاية وتختفي من النص، وأخرى تنام في منتصف القصة كأنها تحرس سرَّها بصمتٍ مُربك. قال لنفسه: إذا التهمت الحكاية امرأة، ماتت كل الحكايات بعدها. ولكن حين هم الكونت بأن يلاحقها في نهاية المطاف، وجد أنهن تلاشينّ في وجهه، لم يعد هناك لعقةٌ تُغري أو صدى يردد. غابت الأنثى عن جميع الحكايات. أدار الكونت ظهره لعتبةٍ فارغة، ووصلت إلى مسامع العالم كلمة:

فراغ،

 فراغ

                بلا أنثى،

                بلا حكاية،

                بلا لعقة

                 بلا حب.

أعلى النموذج

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

يُعْتَبَرُ الكاتبُ المِصْري نجيب محفوظ ( 1911 _ 2006 / نوبل 1988 ) أعظمَ روائي في الأدبِ العربي على الإطلاقِ . تُعَدُّ أعمالهُ سِجِلًّا حَيًّا للتَّحَوُّلات الاجتماعية في مِصْر .

كَتَبَ في فَترةِ التَّحَوُّلاتِ السِّياسية والاجتماعية العَميقة في المُجتمعِ المِصْرِيِّ ، مِنَ الاحتلالِ البريطاني إلى ثَورة…

شكل كتاب “الأسوار والكلمات- عن أدب باسم خندقجي” للكاتب فراس حج محمد، الصادر عام 2025، إطاراً نقدياً ومعرفياً شاملاً لأدب الكاتب الأسير الذي أمضى أكثر من عشرين عاماً خلف القضبان، ويُمثل هذا العمل محاولة للانتقال بدراسة أدب خندقجي من سياق التضامن السياسي والعاطفي إلى سياق التحليل الفني والفكري العميق، وقد خلص الكتاب إلى مجموعة من…

ديلان تمّي

 

أريدُ وردةً حيّةً،

تجعلُني أثملُ في ثوبي الربيعيِّ الأصفرِ،

تلملمُ بقايا أنوثتي المغبرَّةَ في جيبِ المسافاتْ،

وترقّعُ رقصتي الأحاديةَ بخطواتِها الثلاثِ إلى الخلف،

كأنّني بجعةٌ شقيّةٌ، تراقصُ وَهمَها أمامَ المرآة…

بلا خجلْ.

 

أريدُ وردةً حيّةً،

تُعيدُ لي إشراقةَ روحي،

وتطردُ الظلامَ عن ظلِّ وجهي، الذي انزلقَ منّي،

وانصبَّ في خيبةٍ ترفضُ الحياةْ.

 

أريدُها حمراءَ كالدمِ،

لا بنيّةً،

طريّةً،

أخافُ على يديّ إن داعبْتُها،

وعلى الياسمينِ من على كتفي…

يسر موقع ولاتى مه أن يقدم إلى قرائه الأعزاء هذا العمل التوثيقي القيم بعنوان (رجال لم ينصفهم التاريخ)، الذي ساهم الكاتب : إسماعيل عمر لعلي (سمكو) وكتاب آخرين في تأليفه.

وسيقوم موقع ولاتى مه بالتنسيق مع الكاتب إسماعيل عمر لعلي (سمكو). بنشر الحلقات التي ساهم الكاتب (سمكو) بكتابتها من هذا العمل، تقديرا لجهوده في توثيق مسيرة مناضلين كورد أفذاذ لم ينالوا ما يستحقونه من إنصاف وتقدير…