إثر واجم: رواية تشبه نفسها وتخلق لغتها وتقنيتها وعالمها من صمت الذات

إبراهيم اليوسف

لم يكن إصدار رواية” إثر واجم” في مطلع العام عام 2025 عن دار نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب، مجرّد إعلان عن عمل سردي جديد، بل ولادة مشروع روائية- كما نرى- تُدخل إلى المشهد الروائي صوتاً لم يُسمع بعد. هذه الرواية التي تشكّل باكورة أعمال الكاتبة الكردية مثال سليمان، لا تستعير خلالها أدواتها من سواها، ولا تحاكي أسلوباً مألوفاً أو تنخرط في مواضعات السرد التقليدي، بل تُنتج عالمها الخاص، وتصوغ لغتها من مختبر الذات، وتخلق تقنيتها من حاجة داخلية لا إلى الحكاية، بل إلى إنتاج أسرودة تتناول تفاصيل رؤاها وعالمها، بعد تفاعل مجمل الأدوات في بوتقة الإبداع. بهذا، يمكن القول بثقة إنها رواية تشبه نفسها فقط، لا تتكئ على نمط ولا ترتهن لشكل، بل تفرض مناخها ببطء، وتدع القارئ يتورّط في وجدانها رويداً رويداً حتى يغدو النص ذاته مرآة لما يخفيه القارئ لا لما يظهره.

تمضي الرواية منذ صفحتها الأولى في مسار لغوي فريد، لا يُشبه لغة السرد المعتادة، بل ينتمي إلى ضفة شعرية تكتسب نبرتها من الداخل، من رجع الصمت، من وجع لا يُبوح إلا بما يكفي كي يبقى. ليست اللغة في” إثر واجم” زخرفة ولا افتعالاً، بل كلمةٌ مضرّجة بنَفَس التجربة، تتشكّل من هشاشة الشعور ومن رهافة الالتقاط. الجملة هنا ليست خاضعة لتراتب نحوي بل لرغبة الكاتبة في بناء نغمة داخلية، لا تُسمع إلا إذا أُصغي إلى النص بالقلب لا بالأذن. كل مفردة تأخذ مكانها وكأنها خُلقت له، لا في سياق دلالي مباشر بل في سياق وجداني يجعل اللغة تنبض، لا بحياة الواقع بل بحياة داخلية شديدة الكثافة، تنأى عن الفائض وتحتفي بما بين الكلمة والكلمة من مسافة شعور.

خلق تقنية سردية جديدة هو أبرز ما يميّز هذه الرواية، ليس عبر إحداث صدمة شكلية أو تمرّد فارغ، بل من خلال توسيع السرد ليشمل أثر الغياب لا الحدث، وألم الذات لا فعل الآخر. لقد اختارت الكاتبة أن تنسج روايتها على هيئة رسائل قد لا تُرسل، ومذكرات لا تُدوَّن بغاية الحفظ، بل بوصفها محاولات للتماسك، في عالم يتداعى. الشخصية الرئيسة تكتب لنفسها، للحبيب، للغائب، ولكنها تدرك أن لا شيء سيصل. إذ تتمحور الرواية حول شخصيتين مركزيتين، هما “خاتون” التي تتجسّد كذات متأملة تكتب كي لا تنهار، و”گابار” الذي لا يحضر كشخص بل كظل غائب تتوجّه إليه الكلمات بوصفه النداء الأخير قبل السقوط، وهما معاً لا يمثلان بطولة تقليدية بل حضوراً لغوياً ينهض من رماد الغياب. لذلك فإن كل رسالة تتحوّل إلى كينونة لغوية قائمة بذاتها، تتجاوز المرسل والمرسل إليه، وتصير تعبيراً عن حالة داخلية، أكثر مما هي وسيلة للتواصل. بهذا، تتجاوز الرواية مفهوم الرسائل بوصفها جزءاً من حبكة، وتجعل منها أداةً للوجود ذاته، كأن الكلمات حين تُكتب تتخذ شكلاً ملموساً لما يُحسّ ولا يُقال.

هذه التقنية، المستحدثة من رحم الحاجة إلى البوح دون رجاء، تمنح الرواية مناخاً غائماً، لكنه مشبع بالحضور الداخلي، حيث لا شيء يحدث إلا داخل الشخصية، ولا شيء يُقال إلا لأن صمته لم يعد محتملاً. السرد كله ينمو في الغرفة، في السرير، على حواف الأوراق، في سطور بلا زمن، وأمكنة بلا أسماء. الشخصية هنا ليست بطلة، بل وجدان يتشكل ويتهشم ويعود لينبعث عبر اللغة. لا اسم لها، لا وصف مادي، لا ملامح، ولكنها حاضرة أكثر من أي شخصية سواها، لأن القارئ يعرفها من صوتها، من رسائلها، من رعشة يدها وهي تكتب.

ومثلما لا تتبع الرواية حبكة واضحة، فهي أيضاً تتمرد على الزمن، لا عبر التنقل بين الماضي والحاضر، بل عبر تعليق الزمن كله في لحظة واحدة تمتد على طول السرد، لحظة “الوجم” الذي يُشكّل مركز الرواية ومفتاحها. هذا الوجم ليس صدمة لحظية بل حالة دائمة، لا تتغير، بل تُعاد صياغتها كل مرة بلغة مختلفة. هنا، نحن أمام الزمن الذي لا يمضي، بل  الذي يدور حول ذاته، كما لو أن الرواية كلها محاولة لإيقاف الألم عبر إعادة سرده بلا انقطاع.

أما المكان، فهو صورة لما يحدث داخل الذات، لا في الخارج. الغرفة التي تسكنها البطلة ليست مجرد مساحة بل ملاذ، وهي تتقلص وتتمدد وفق الإحساس. كما إن الجدران تقترب حين تشتد الوحشة، وتبتعد- في المقابل- حين تنفتح الذاكرة. إذ ليس هناك توصيف مكاني واقعي، بل  ثمة توصيف شعوري يجعل من المكان كائناً حياً يشارك الشخصية في انكسارها وتماسكها.

في هذه الرواية، الكتابة نفسها تصبح فعلاً وجودياً. ليست مجرد وسيلة للتعبير بل سلاحاً لمواجهة الانهيار الداخلي. الكاتبة تُبرز ذلك من خلال قدرة الشخصية على مواصلة الكتابة رغم انهيار العالم حولها، كأن اللغة وحدها تكفي، لا كعزاء، بل كشهادة على النجاة الممكنة.

إن إثر واجم عمل يندرج ضمن إطارالرواية التأملية، لكنه يتجاوز تصنيفه، لأنه لا يستعير أي قالب سابق، بل يبتكر قوالبه من الحاجة الملحة إلى أن تتناول الذات كما هي، لا كما يجب أن تكون. في زمن تغلب فيه الرواية السريعة والحبكة المتقافزة، تأتي سليمان بمشروع مضاد، مشروع سردي بطيء ولكنه نافذ، هش ولكنه مشعّ. لا تُدهش الرواية قارئها بالحدث، بل بالهدوء الذي يخفي عاصفة داخلية، وبالكتابة التي تقول دون أن تُفصح، وتبوح دون أن تُسرف.

إثر واجم ليست رواية للقراءة العابرة، بل للتوغل. رواية لا تُنسى لأنها لا تُفاجئ، بل لأنها تترك داخل  روح القارئ صدى الوجم ذاته. من خلالها، تثبت مثال سليمان أنها لا تكتب لتدخل المشهد الإبداعي، فحسب، بل لتعلن ولادة لغة خاصة، وتقنية فريدة، وعالم روائي لا يشبه إلا نفسه. رواية هي الأولى في مسيرتها، ولكنها تشي بنضج لغوي وبصيرة سردية نادرتين، وتفتح باباً لكتابة تتنفس ببطء، لكنها تصل إلى أبعد نقطة في الوجدان.

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عصمت شاهين الدوسكي

الشاعر لطيف هلمت غني عن التعريف فهو شاعر متميز ، مبدع له خصوصية تتجسد في استغلاله الجيد للرمز كتعبير عن مكنوناته التي تشمل القضايا الإنسانية الشمولية .

يقول الشاعر كولردج : ” الشعر من غير المجاز يصبح كتلة جامدة … ذلك لأن الصورة المجازية جزء ضروري من الطاقة التي تمد الشعر بالحياة…

بسم الله الرحمن الرحيم

“يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي”
صدق الله العظيم

ببالغ الحزن والأسى، تلقى موقع ولاتي مه نبأ وفاة السيدة ستية إبراهيم أحمد دوركي، حرم المرحوم صالح شرف عثمان، ووالدة الكاتب الكوردي المعروف فرمان بونجق هفيركي…

إبراهيم اليوسف

لقد غدا اليوم الذي ظننته يوماً للذكرى، لا للرحيل، يوماً غيّر مسار الذاكرة كلّها. جدد فيه الألم، ومنحني ألماً من نوع آخر، بسبب عدوى ألم المحيط الذي يشكل أديماً روحياً. استيقظت وأنا أتهيأ للحديث مع إخوتي وأخواتي في الذكرى الثالثة والعشرين لرحيل أبي- كما أفعل ذلك منذ أكثر من عقدين- فإذا بأخي أحمد يهتف…

مروان شيخي

المقدّمةُ:

في المشهدِ الشِّعريِّ الكُرديِّ المعاصرِ، يبرزُ الشاعرُ فرهادُ دِريعي بوصفِه صوتاً خاصّاً يتكلّمُ من عمقِ التجربةِ الإنسانيّةِ، لا بوصفِه شاهداً على الألمِ فحسبُ، بل فاعلاً في تحويلِه إلى جمالٍ لغويٍّ يتجاوزُ حدودَ المكانِ والهويّةِ.

ديوانُه «مؤامرةُ الحِبْرِ» ليسَ مجرّدَ مجموعةِ نصوصٍ، بل هو مساحةٌ روحيّةٌ وفكريّةٌ تشتبكُ…