أحمد آلوجي
من بين الشخصيات العامودية التي تركت بصمة عميقة في ذاكرتي، أولئك الذين منحوا فنهم جلَّ اهتمامهم وإبداعهم، لا سيّما في المناسبات القومية واحتفالات نوروز التي كانت دائمًا رمزًا للتجدد والحياة. ويبرز بينهم الراحل الفذ مصطفى خانو، الذي أغنى المسرح الكردي بعطائه وإحساسه الفني الرفيع، فاستطاع أن يجذب الجماهير بموهبته الصادقة وحبه الكبير لقوميته، مضفيًا على نوروز ألقًا وتميّزًا خاصًا.
كان حضوره على الخشبة مزيجًا من الشغف والانتماء، وقد شكّل جزءًا من ذاكرة المسرح الكردي الحديثة بما حمله من طاقة فنية وصدق إنساني نادر. لم يكن مجرد ممثل يؤدي دوره فحسب، بل كان فنانًا ملتزمًا يعيش معاناته القومية اليومية على المسرح، ويحيلها إلى مشهد فني ينبض بالوعي والإحساس والمسؤولية. ترك في نفوس جمهوره أثرًا عميقًا، فكان فنه مرآةً صادقة لروح الشعب الكردي الباحث عن الحرية والكرامة.
أما الشخصية الثانية فهو الشاعر والفنان فرحان (دل إيش) بافي كاسر، الذي وهب الكثير من تفكيره وحياته للفن والشعر والفلكلور الكردي على مدى أكثر من أربعين عامًا. تميز بعطائه المتنوع وإبداعه الأصيل، فكان صوته مرآةً لروح الشعب الكردي ووجدانه. وأكثر ما أثار إعجابي في مسيرته هي قصيدته البدوية الساخرة التي وجّهها لهجاء الدكتاتور العراقي السابق صدام حسين، حيث جعل من الكلمة سلاحًا للمقاومة، ومن الشعر منبرًا للحقيقة، فعبّر عن موقفه الفني والوطني بشجاعةٍ وصدقٍ نادرين.
وما يزيد من قيمة مسيرته أنه لا يزال حتى اليوم، وهو في المهجر، يواصل نضاله الإبداعي بلا كلل أو ملل. لم تنل الغربة من عزيمته، بل زادته إصرارًا على مواصلة رسالته الفنية والقومية. فما زال يؤلف القصائد ويحيي المناسبات الوطنية والقومية الكردية بحماسٍ وشغفٍ كبيرين، وكأن كل أمسية أو احتفال هي ساحة جديدة للنضال بالكلمة والموسيقى. يمضي في طريقه مؤمنًا بأن الفن هو أحد أقوى أسلحة الشعوب في مواجهة النسيان والاغتراب، مستمدًا طاقته من حب الجمهور ومن إيمانه العميق بعدالة قضيته. وكيف لا، وهو الذي لم يبالِ يومًا بالمضايقات الأمنية حين كان في الداخل، بل واجهها بابتسامة الفنان الحر وبقلب شاعر لا يعرف الخوف.
إن الحديث عن مصطفى خانو وفرحان بافي كاسر هو استذكارٌ لمرحلة مضيئة من تاريخ الفن الكردي، مرحلةٍ كان فيها الإبداع متلازمًا مع القهر والاستبداد البعثي. هناك، التقت الكلمة بالمسرح، والعاطفة بالانتماء، والإبداع بالالتزام القومي. فكلاهما، بطريقته الخاصة، جسّد معنى الفن المقاوم الذي لا يكتفي بالجمال، بل يسعى إلى ترسيخ الوعي والحفاظ على هوية الأمة وثقافتها الأصيلة. إنهما شاهدان على أن الفن الكردي لم يكن مجرد ترفٍ ثقافي، بل فعل وجودٍ ومقاومةٍ ضد النسيان والاضطهاد، ورسالة حب وانتماء متجددة لا تعرف الانطفاء.