إبراهيم محمود
قبل أيام، أعلمتني رفيقة دربي، أن السيدة ستية إبراهيم أحمد دوركي، وهي والدة الصديق والحقوقي فرمان بونجق هفيركي، قد وُدّعت من دنياها. قبل يومين، أعلمتني ابنتي سولين من ألمانيا، أن صديقتها نرمين برزو محمود، قد ودّعت هي الأخرى من دنياها، لتصبح الاثنتان في عالم الغيب. في الحالتين ثمة مأساة، فجيعة. هما وجهان يتقابلان، يتكاملان، يتقاسمان القلب بجدارة. وجهان يرسمان معالم حدودية حياتية وتقاطعان لكل منا: الأم والابنة .
إيرادهما مع صورتيهما في مقال له صفة رثائية، مصادفة، لعلها الحياة نفسها، لعله الموت نفسه، وهما تظهِران ما يصدم، أو أو يباغت أياً منا. لا صلة معرفة بينهما، أو بين عائلتيهما، سوى أنهما في لحظتين متقاربتين زمنياً، ومن ناحية المعرفة، فرضتا حضورهما المأساوي، صدمة مأساة رحيل لافتة، رحيل مَن تكون أماً، ومن تكون ابنة .
شدتني الحالة كثيراً، تحت وطأة وجع لا أحد بمنجى منه، جهة مأساة رحيل الأم، رغم أنها عمرتْ طويلاً، ومأساة ابنة، وهي بعمرها الربيعي. لكل منهما ثقل الحزن الذي يتدفق في كامل الروح: الأم وهي تشدنا إلى ماض، حيث عقود من السنين، كما لو أن هناك ولادة مستمرة في ظلها، في حضنها، معها، وأن هناك شعوراً بطفولة مستدامة، وعافية، وظل حنوّ لصدر لا يكف عن درّ الأمان والسكينة ، ولو عن بعد..الابنة، كما هي حال نرمين ابنة كاتبنا برزو محمود، ابنته الوحيدة، ابنة فريال فرسو، رفيقة دربه، فلذة كبديهما، فجيعة شبابها، وهي تمثّل مؤاساة المتبقي من العمر، المستقبل، ثمة أمومة من نوع آخر مع الابنة، استشعار حنان، هدوء، سكينة، رفيف جناحي قصيدة منداة معها، كما لو أن وجهها بلسم يحول دون التقدم في العمر .
بقيتُ لبعض الوقت وأنا أحاول الجمع بينهما، التفريق بينهما، والنظر في المسافة الفاصلة.. إنها مسافة الألم الصامت، رغم التفجع الملتهب في القلب، رغم تدفق الدموع لاإرادياً إيعازاً إلى أن ليس في المقدور كتمان نوعية الجرح العصي على البرء، صحبة المعاناة الخاصة، بالنسبة للابنة. مع الأم يلتفت أحدنا إلى الوراء، إلى الأمس البعيد والقريب، حيث الظل الوارف لوجه الأم، ليدها، لكلمة” ابني ” لخطوها، لسهرها، لصدق مكابدتها التي لا تُستنسَخ، جهة أبنائها وبناتها، لتكون الأم الكبرى، الطبيعة التي تعطي دون حساب، ومع الابنة، ينظر أحدنا إلى الغد، إلى الآتي القريب والبعيد، وثمة ظل وارف، حنيّن، رؤوف، اطمئنان، سندة الروح الماضية في عجزها أحياناً، في شيخوختها، ليكون هناك نوع من الضمان الصحي الروحي، لتكون هذه ” عكازة ” الجسد التي تتحمل وطأة العمر، السنين وعذاباتها، متتاليات الأيام وضراوتها، لتكون العزاء الملهم والمبهج.
في الحالتين، ثمة حكمة مركَّبة، مأساة ذات وجهين، توغل في النسيج الروحي، وتبقينا في كامل يقظتنا، ورعب اللحظة التي تفاجىء، رعب الصدمة التي يستحيل تقبّلها، أو تحملها، ولكل منهما، النكهة المريرة، إن جاز التعبير، وهي تتشرب كامل الجسد. وما لهذه الكلمات أن تتنفس على الورق، لولا بأس الوجع .
أقدّر هنا الوجع الدفين، وقد أفصح عن وقدته ، بالنسبة للصديق فرمان بونجق، الابن المعذّب برحيل أمه الأبدي، وهو في علته. أقدر الوجع الدفين والصارخ ، والمعبّر عن سطوته وطغيان أثره، بالنسبة لكاتبنا برزو محمود، بالنسبة لأمها المفجوعة بها : فريال، أي بالنسبة للزوجين وهما مأخوذان برهبة الرحيل الأبدي لابنتهما الوحيدة، كما هو شعور كل منهما، في الصميم، حين يلتفت إلى الماضي ابناً، وحين ينظر إلى الآتي أباً، أو أماً بالمقابل. ليس ثمة مخرج، سوى بإبقاء اسميهما في ذاكرة الروح، على الأقل، صك إيلام ووفاء بنوة وأبوة وأمومة معاً.
عزائي لكل مفجوع بأمه، عزاء لكل مفجوع بابنته، هنا، وفي تأكيد العزاء، إشعار بألم مشترك ننتسب إليه جميعاً، ولا مفر منه البتة!