إبراهيم اليوسف
لا أريد أن أصدق أنّ مزكين حسكو بعيدة عنا الآن. أكاد أكرر مثل هذه الجملة كلما استهل صباح جديد، منذ أربعين يوماً، لأنّ مخيلتي ترفض ترتيب الأحداث وفق ما جرى. أستيقظ فأشعر أنّ حضورها قريب، وأنّ غيابها لم يستقرّ بعد في الوعي. أتصرف كما لو أنّ صوتها سيصل الآن، وأنّ رسالتها القصيرة ستسبق أي اجتماع، وأنّ ملاحظتها الهادئة ستظهر كما اعتدناها قبل كل نشاط. هذا الشعور ثابت لأنه نابع من معرفة طويلة بطريقتها في الحياة، طريقة جعلت من استمرارها جزءاً من طبيعة الأيام لا من رغباتنا نحن.
حيث لا أستطيع الإقرار في أعماقي أنّ تلال دوكر تحتضنها فعلاً. أتعامل مع هذا الواقع بحذر، كأنّ العقل يريد وقتاً أطول ليهضم الفكرة التي لا تنسجم مع الصورة التي عرفناها. كانت تتحرك بيننا بانتظام محسوب، وكانت تتابع ما ننجزه أو نخسره في كل يوم، وكانت تضع رأيها دون ضجيج، فيما لو تطلب الأمر. لذلك يبدو هذا الانتقال المفاجئ، إلى البرزخ غير المرئي، مثل فراغ هيولي في دورة الزمن. فراغ يجعل الحاضر غير مكتمل، والماضي شاخصاً لا يريد مغادرة الذاكرة والخيال.
من هنا يتبين أن حضور الشاعرة مزكين حسكو. الزميلة الأخت الصديقة الابنة ما يزال ممتداً في تفاصيل كثيرة. ها أفتح الملف الذي شاركت في ترتيبه في مخيلتي فأجد أثر حبرها في طريقة تنظيم الصفحات. أرى الكتب التي وزعتها على زملائها- عن طريقها أو عن طريقي- فأتذكر دقتها في اختيار الأسماء والعناوين. أراجع منشور فعالية سابقة فألمح تعليقها القصير بادئاً بصفة”خالو” التي كنت أحبها. كل هذه التفاصيل تجعل الغياب غير مقنع، وتجعل الصورة أقرب إلينا من أية محاولة لإقناع النفس بأن الأمر انتهى.
أحياناً أسترجع رائحة حبر أو حديث قديم معها، لا لأستعيد الكلمات، بل لأتأكد أنّ بهاء روحها لايزال في مكانه، وأنّ الرسالة الصوتية الأخيرة كانت مجرد بروفة مسرحية لمنص درامي، فحسب، وأنّ الزمن لم ينجح في تحويل حضورها إلى تاريخ. إذ لا أستجر ظلال الحنين، وإنما أبحث عن استمرار حضور القصيدة. أبحث عن طريقة تقول لي إنّ الإنسان الذي عاش بهذا الانضباط لا يمكن أن يتحول بسهولة إلى صفحة مغلقة.
وهكذا أجد أنّ نفسي تميل إلى إنكار رحيلها لأن الشخصية التي عرفناها جميعاً لا تقبل الاختفاء السريع. فقد كانت تشكّل حولها دائرة واضحة: دائرة عطاء وتواصل، دائرة متابعة، دائرة التزام. دائرة احترام. فلم تكن تترك فراغاً في مهمة صغيرة ولا في مهمة كبيرة. بل كان لديها حضور يضبط إيقاع التواصل مع محيطها: أهلاً وصديقات وأصدقاء وقراء، مسمين أوافتراضيين، من دون إعلان. اليوم، حين نتعامل مع الواقع نفسه من دون صوتها، نشعر بأن خللاً يهدد بنيان توازن. ولا يعود السبب-هنا- إلى العاطفة وحدها، بل إلى طريقة عيشها التي كانت تعتمد على وجودها الفعلي في كل تفصيل يتعلق بالقضايا السامية. النبيلة: الإبداع. الروح الإنسانية. الغرق في هموم المحيط.
أجل، يتضح في هذا السياق أن هذا الإحساس ليس نتاج شعور فرد، بل شعور جماعة عرفت مزكين عن قرب. صديقاتها يشعرن بالمرارة ذاتها. أصدقاؤها يشاركون ذويها الألم نفسه. أسرتها تعيش الأيام وكأنّها ستفتح الباب فجأة لتقرع باب البيت كما كانت تفعل. الأمّ العجوز التي كانت تحرص ألا تعلمها بألمها لما تزل تنتظر رنين هاتفها. تستعيد في مخيلتها صور الأماكن التي احتضنتها طفلة ومن ثم صبية فأماً. رفيق دربها. أولادها يحاولون تنظيم يومهم وسط فراغ لا يعرفون كيف يملؤونه. أهلها في الشلهومية. في تربسبي يتذكرون زياراتها ويعاملون خبر رحيلها كأنه خبر ناقص لم يُستوعب بعد. كل هؤلاء يشتركون في منطق واحد: الإنسان الذي قاوم بهذا الثبات، وكتب في أصعب الأيام، لا يمكن إدخاله، بسهولة، ويسر، من قبلنا، مهما جحدنا، في كواليس الذاكرة أو الغياب.
من هنا نرى أن جملة “لا أريد أن أصدق” ليست تعبيراً عن ضعف، بل توصيف دقيق لحالة مستمرة. حالة تجعل الحضور أقوى من الغياب. حالة تجعل السؤال عنها أمراً طبيعياً كما لو أنّها ستردّ بعد دقائق على هواتفنا. على رسائل الصباح إليها. هذا الشعور لا يحمل وهماً، بل يحمل واقعاً نراه في طريقة تأثيرها في محيطها، وفي البصمة التي تركتها في كل مكان عملت فيه.
وهكذا أعود كل يوم إلى الفكرة نفسها: مزكين ليست بعيدة. مزكين لم تغادر حياتنا. مزكين انتقلت إلى شكل آخر من الحضور، شكل يجعلنا نعمل كما كانت تريد، ويجعلنا نحافظ على المجال الذي أعطته وقتها كله، ويجعلنا نتعامل مع الكتابة كما تعاملت معها: مسؤولية لا تتراجع أمام مرض، ولا أمام ألم، ولا أمام رحلة طويلة انتهت في أعلى عنوانها الدوكري الأخير.