ماهين شيخاني
في قلب الجزيرة الفراتية، وعلى سفح جبل يطلّ على سهول ما بين النهرين، تتربع مدينة ماردين كأنها كتاب مفتوح على قرون من التفاعل البشري. ليست ماردين مجرد مدينة، بل فسيفساء حيّة من لغات وأديان وأعراق، حيث لا يمكن اختزال هويتها في قومية واحدة أو لغة واحدة، بل في صدى الحجارة التي عاشت أكثر من كل السلاطين والخطابات.
تاريخ ماردين: تقاطع الإمبراطوريات والذاكرة
تعاقبت على ماردين إمبراطوريات آشورية، فارسية، رومانية، بيزنطية، عربية، عثمانية، وكلها تركت أثرها في معمارها وروحها. كانت المدينة مركزاً إدارياً وثقافيًا في العهد العثماني، واحتضنت مدارس دينية وزوايا صوفية، كما كانت نقطة التقاء بين طرق التجارة والثقافة القادمة من بلاد الشام والعراق والأناضول.
المفتي عبد السلام المارديني (1785–1843) وثّق في كتابه تاريخ ماردين أحوال العشائر الكوردية والعربية، مشيراً إلى التفاعل العميق بين سكان المدينة والسلطة المركزية، وإلى دور الكورد في القضاء والإفتاء، مما يدل على اندماجهم في البنية الاجتماعية والسياسية للمدينة.
الكورد في ماردين: أبناء الجبل وحراسه
بحسب الباحث البريطاني David McDowall، ظلّ الكورد المكوّن الأكبر في ماردين ومحيطها منذ القرون الوسطى حتى اليوم. استقرت قبائل كوردية عديدة في سفوح المدينة، وأسست نفوذاً سياسياً واجتماعياً لم يزحه سوى التتريك اللاحق. الكورد في ماردين ليسوا مجرد سكان، بل هم جزء من نسيجها الجبلي، يحملون في أغانيهم ولهجتهم صدى الأرض والذاكرة.
السريان والأرمن: الجذور والجرح
السريان–الآشوريون هم سكان الأرض ، وما زالت لغتهم السريانية حاضرة في الأديرة والكنائس التي تزين المدينة. الباحث Martin van Bruinessen يشير إلى أن ماردين كانت حتى أوائل القرن العشرين مركزاً مسيحياً سريانياً بارزاً، قبل أن تقلّص المذابح والهجرات أعدادهم بشكل كبير.
أما الأرمن، فقد كانوا جزءاً من النسيج حتى عام 1915، حين أفرغتهم المذابح من المدينة، لكن حجارتها الصامتة ما زالت تروي قصصًا لم تُكتب كلها.
العرب: لغة ودين أكثر من قومية
وجود العرب في ماردين ارتبط أساساً بالفتح الإسلامي، ثم بالاستقرار في بعض القرى والسهول. لكن كثيراً ممن يُحسبون اليوم “عرباً” هم في الحقيقة كورد أو سريان أو تركمان تعرّبوا لغوياً بفعل الدين أو الإدارة العثمانية. الباحث الروسي Vladimir Minorsky أشار إلى أن التعريب في ماردين كان ظاهرة لغوية – دينية، أكثر منه تحوّلاً قومياً صافياً.
الهوية خلف الأرقام
الإحصاءات التركية الحديثة تضع العرب بنسبة تقارب النصف، غير أن هذه الأرقام تعتمد على معيار اللغة اليومية فقط، وليس على الأصل القومي. وهنا يكمن الخلط: فاللغة العربية في ماردين كانت جسر دين وثقافة، لا بطاقة هوية قومية.
ماردين اليوم: فسيفساء حيّة
الحقيقة الأصدق أن ماردين كوردية الغالبية، سريانية الجذور، أرمنية الذاكرة، وعربية الدعاء واللغة. إنها مدينة لا تختزل في قومية واحدة ولا نسبة جامدة. كل حجر فيها يحمل قصة: كوردي يردد أغنية على سفح الجبل، سرياني يرنّم في دير قديم، مؤذن يرفع الأذان بالعربية، وأرمني يترك جرحاً في ذاكرة المكان.
خاتمة: المدينة التي تتكلم بالحجارة
ماردين، مثلها مثل كوردستان كلها، تذكّرنا أن الهويات لا تُقرأ في الجداول الرسمية، بل في صدى الحجارة التي عاشت أكثر من كل السلاطين والخطابات. إنها مدينة لا تُفهم بالأرقام، بل بالقصص التي ترويها جدرانها، وبالوجوه التي عبرت شوارعها، وباللغات التي ما زالت تُهمس في زواياها القديمة.
8-11-2025