أحمد مرعان
رحلةُ سقوطِ الوعي بين بريقِ المصلحة وبهتانِ الحقيقة؛ كان المثقفُ أيامَ النقاءِ والتضحيةِ نبضَ الوعي الجمعي في جسدِ الأمة، وصوتَ العقلِ حين تسكتُ الأصوات، يسيرُ في الدروبِ المظلمةِ حاملًا شعلةَ النور بالفكرِ والوعي، بقدسيةِ إعلاء كلمةِ الحق، ينيرُ بها القلوبَ والعقولَ قبلَ الطرقات، مغامرًا بنفسِه إلى السجونِ والمعتقلات، وربما يكونُ ضحيةَ فكرِه ورأيِه، يؤمنُ أن للكلمةِ الصادقةِ رسالةً لا تُشترى بالمساومات، وأن للحقيقةِ ضريبةً لا تُؤجَّل مهما كانت المغريات، كان يرى في المعرفةِ خلاصًا من العبودية، وفي النقدِ للسلبياتِ واجبًا أخلاقيًا، وفي الصمتِ خيانةً.
غير أن المشهدَ في زمنِ التشرذمِ والانقلاباتِ الفكريةِ والعقائديةِ قد تغيّر، وبدا انطفاءُ المصابيحِ واحدًا تلوَ الآخرِ أمرًا اعتياديًا. وللأسف أصبحَ بعضُ المثقفين يخلعونَ ثيابَهم ويرتدونَ ثيابَ المهرجين بألوانٍ مزركشةٍ تناسبُ مزاجيةَ قائدِ الأوكسترا في مسارحِ التمثيل، واستبدلوا وهجَ الفكرةِ الناضجةِ والمفيدةِ بشعاراتٍ طنانةٍ للمديح. أولئك الذين كان الشعبُ ينظرُ إليهم كممثلين له في مقاومةِ الزيف، صاروا حرّاسَه، وحين كان يُنتظرُ منهم أن يواجهوا السلطات، صاروا ظلَّها، وبدل أن يصنعوا الوعي، صاروا أدواتٍ إضافيةً في تزييفِ الحقيقة.
إن التحولَ من المثقفِ المضيءِ إلى المطبلِ بلا وعي لا يحدثُ فجأةً ولا عبثًا، بل يُهيَّأ له في أقبيةٍ خفية، ويتسللُ بخطى ناعمةٍ وحسّيسة، يبدأ بتبريرِ موقفٍ صغيرٍ لصالحِ الضلالة، أو مجاملةٍ خجولةٍ أحيانًا، ثم يتحولُ رويدًا رويدًا إلى عادةٍ مستباحةٍ بدعمٍ ماديٍّ أو معنويٍّ، ثم إلى عقيدةٍ فكريةٍ جديدةٍ تُقدَّسُ فيها المصالحُ ويُنسى فيها وهجُ الضمير. يتحدثُ ليرضي داعميه لا ليكشفَ زيفَ الحقائق، ويكتبُ ليصفقَ له الجمهورُ لا ليوقظهم من غفلتهم، مستهجنًا التفكيرَ خارجَ إطارِ الصندوقِ وفقَ إرادةِ السلطانِ وحاشيته.
وهكذا يصبحُ الفكرُ سلعةً رخيصةً تُعرضُ في أسواقِ النفوذ، وتُباعُ المعرفةُ في مزاداتِ الرغبة، ويبدو القلمُ أداةً لتزويقِ الباطلِ كما يلمعُ الزجاجُ في العتمة، لكنه لا يُنير. المأساةُ ليست في سقوطِ بعضِ المثقفين، بل في اعتيادِ الناسِ على سقوطهم، بل في تحوّلِ متوالياتِ السقوطِ أمرًا مجتمعيًا وعاديًا؛ يصفقونَ لمن يضللهم باسمِ الفكر، ولمن يجمّلُ جهلَهم بألفاظٍ برّاقةٍ وأسلوبِ إلقاءٍ حماسيٍّ يُجيّشُ فيهم الرغبةَ في الانتماءِ إلى هذه الجوقةِ من الممثلين. إنها خيانةٌ مزدوجة: خيانةٌ للحقيقةِ وخيانةٌ للعقل.
المثقفُ الحقيقي لا يطبّل، بل يطرقُ أبوابَ الوعي حتى تُفتح، ويجاهدُ بالكلمةِ الصادقة كما يجاهدُ المحاربُ بسلاحه، لا يُساومُ على فكرٍ صادقٍ وأمين، ولا يُهادنُ في حق، لأن النورَ لا يُهادنُ الظلام.
وفي النهاية، سيبقى سؤالُ الوعي معلّقًا في وجهِ كل من يكتبُ أو يتكلمُ أو يفكر:
هل أنتَ من الذين يضيئون الطريق، أم من الذين يطبّلون للعتمة؟!!