مروى بريم
تعودُ علاقتي بها إلى سنوات طويلة، جَمَعتنا ببعض الثَّانوية العامة في صفّها الأول، ثمَّ وطَّدَت شعبة الأدبي صحبتنا، وامتَدَّت دون انقطاع حتى تاريخه.
أمس، انتابني حنينٌ شبيهٌ بالذي تقرّحت به حنجرة فيروز دون أن تدري لمن يكون، فوقه اختياري على صديقتي وقررتُ زيارتها.
مررتُ عن عمَدٍ بالصّرح الحجري العملاق الذي احتضن شرارات الصِّبا وشغبنا البريء، ماتزال شعبتنا في الطّابق الثاني ترنو إلى الغرب، وعلى نافذتها ملامح وداع طازج طري، كأنها تنظر خلف أحبّة وتعي أنهم لن يعودوا أبداً، لم يتغير شيء، فقط البازلت ازداد شحوباً، وربما السُّور هرمَ وتقزّمَ، أو ربما وقع كلانا في قبضة فيزياء الكم فيبدو لي أقلَّ ارتفاعاً.
بمزيدٍ من التمعن اكتشفتُ أنني مخطئة، ثمة تغيير لافت أعلى الجدار، اسم مذكر غريب كُتِبَ بطلاء أبيض على باب المدرسة، كنا فيما مضى نناديها باسمٍ مؤنث، يا له من تحوّل محزن وتغيير تنفر منه ذاكرتي الطّاعنة في تربة النوستالجيا كشجرة الجوز، تتعثّر لساني بالاسم الجديد، وأبى إلا المرور على القديم المنتهي بتاء منغلقة.
سرقتني الصّور وتابعتُ طريقي كالمُسرنم، دفعت نجاة قصَّار باب الصَّف، مرّرت أصابعها في غرّتها القصيرة كنهارات الشّتاء، وضحكت ملء الشّدقين حتى اندفع الدمع من خلجان عينيها، وألقت علينا التحية:
– مساء الخير يا شعبة الأبدي، رح تعيدوا البكالوريا سنوات كتيرة.
دخل الصّف في نوبة ضحك، التفتُّ نحو الخلف حيث تجلس صديقتاي المقربتان، إحداهما تلك التي أقصد زيارتها اليوم، أحال الضّحك وجهيهما إلى بحيرة استعمرت الطّحالب الحمراء ماءها، في المقعد الأول تجلس قربي صديقة أخرى صاحبة عضوية دائمة في مافيا صغيرة كنا أسسناها سوياً، لتصيّد كافة المواقف الباعة على الضحك، كعادته كان عنقها مائلاً على المقعد كثمرة بابايا أثقلها النضج، تصفّرُ حنجرتها بضحكة رفيعة كما لو أنَّ قطاراً بخارياً يعلن قدومه للمحطة، تدخّلُ صوت نجاة مرة أخرى وقد بعثر الدّمع بعض كحل عينيها خلف النظّارة:
– افتحوا الكتاب عالمنطق يا أبدي.
ساد الصّمت، أوغلت في الشَّرح حتى الاسهاب، وتحوّل الصّف إلى خُمٍّ تأوي إليه دجاجات خاملة سطا المساء على نقيقها، وبضحكة أخرى طويلة وبيقين المتأكد من الإجابة:
– فهمتم شي؟
ترتفع بعض الكسولة، وتجيب على مضض:
– نعم آنسة.
– أقطع إيدي إذا «فهمتو» حرف.
على ناصية الشارع المفضي إلى جامع صلاح الدين، انتهت الحصّة الدراسية في رأسي وخرجت نجاة من الباب، ابتعدت في الممر الطويل بهيبة الرهبان لتحضر حصة دراسية في صفٍ آخر.
ككوازيمودو قارع أجراس نوتردام، أفسدت الموجّهة ماري هدوء الجرس الذَّهبي وقرعته لينتهي الدّوام، ونفضت معه كل أشجار المنحدر في وادي العيون.
اجتمعنا أمام باب المدرسة نحن الأربعة، ذهبت واحدة لشراء أقماع ورقية ممتلئة بالنَّفيش، استمتعنا بالتهام مفرقعات الذّرة في الطّريق حتى فرقتنا المنعطفات وجهات بيوتنا المتناثرة.
قطعتُ أغلبَ الطّريق إلى بيت روشين، نظرتُ ورائي إلى المدرسة، بدَتْ من بعيد كتحفة من التُّورمالين يتزين بها تل الشّيخ مقصود الشّرقي، انتزع المشهد ابتسامة مالحة من وجهي المتغضن من انتشال مشاهد عالقة في الغبار، واضطُررتُ إلى أن أثبت وجودي الحقيقي لنفسي وأنني لستُ طيفاً يجرفه حنين دائم الاشتعال.
شكلتُ قبضة بيدي اليمنى، وأزعجتُ حديد الباب بالجزء المدبب من سلاميات أصابعي، ولكمته مراتٍ ثلاث، حتى فُتح على مصراعيه:
– عمتِ مساءً، رفيقة شعبة الأبدي.