إعداد وسرد أدبي: خوشناف سليمان
(عن شهادة الراوي فاضل عباس في مقابلة سابقة )
في زنزانةٍ ضيقةٍ تتنفسُ الموت أكثر مما تتنفسُ الهواء. كانت الجدران تحفظ أنين المعتقلين كما تحفظ المقابر أسماء موتاها.
ليلٌ لا ينتهي. ورائحةُ الخوف تمتزجُ بالعَرق وبدمٍ ناشفٍ على أرضٍ لم تعرف سوى وقع السلاسل.
هناك. في ركنٍ من أركان سجنٍ عراقيٍّ من زمن صدام حسين. جلس الراوي فاضل عباس بين وجوهٍ شاحبةٍ معلقةٍ بين الرجاء والاستسلام.
من بين أولئك. كان هناك شابّان كرديّان من كردستان العراق: محمد ومحمود حسين.
شقيقان جمعهما الدمُ والأملُ والموتُ القادم من كلّ الجهات. كانا جامعيَّين. في مقتبلِ العمر. يحملان في عيونهما ما يشبه الوطن الضائع.
كانا يطلبان من فاضل أن يحدّثهما كل مساء. أن يروي لهما ما يحفظ من القصص. من الأغاني. من الشعر. من رائحة الحياة التي بقيت خارج هذه الجدران.
يقول فاضل:
كانا يصغيان إليّ كمن يلتقط أنفاسه الأخيرة من فم القصيدة. كانا يبتسمان حين أروي. كأنهما يعيشان العالم من خلال كلماتي. قلت لهما ذات مرة: عندما نخرج من هنا سأحدّثكما عن كل شيء. عن الفجر والخبز. عن نهر دجلة حين يصحو. تبادلا نظرة صامتة. ثم قال محمود بصوتٍ خافتٍ كأنه يعتذر للحياة:
نحن لن نخرج إلا إلى الإعدام. الأكراد لا يعودون من هذا السجن.
منذ تلك الليلة. صار الشعر طريقتهم في مقاومة الموت.
قرأ عليهم فاضل قصيدة بالعربية. كانت الكلمات صعبةً عليهم في البداية. فالعربية ليست لغتهم الأولى. لكنهما أصرّا على حفظها.
كررا الأبيات لأيامٍ طويلة حتى حفظاها عن ظهر قلب.
كانا يرددانها في الصباح كأنها صلاة. وفي المساء كأنها وعدٌ مؤجل للحياة.
يقول فاضل: أحببتهما كما أحباني. كانا مثل ابنيّ. قلت لهما: تستطيعان أن تحفظا الكثير حين تخرجان.
ابتسم محمود طويلاً. مغمضَ العينين. كأنما يرى ما لا يُرى. أما محمد فظلّ يحدّق في زاوية المهجع. حيث عُلّقت صورة صغيرة لوالديهما. صورة باهتة لكنها تتوهّج بحنين لا يُقال.
عاد محمود إلى الكلام. بصوتٍ مبللٍ بالحزن:
سنحتفظ بهذه القصيدة إلى يوم إعدامنا. لأن خروج الكردي من هذا المعتقل يحتاج إلى معجزة. و نحن لسنا أنبياء.
ثم ضحك ضحكةً بلا صوت. بعينين نصف مغمضتين. وقال:
والله اشتقنا لكردستان.
في فجرٍ بعيد. حين كانت العتمة أثقل من الجبال. انفتح باب المهجع على صراخٍ وحشيٍّ من الجنود:
استيقاظ!
انهالوا ضربًا على المعتقلين كي يقفوا صفًا واحدًا أمام أسرّتهم.
دخل ضابطٌ برتبة عقيد. وخلفه ملازمٌ أول ومساعدان. ومعهم مدنيّان يراقبون بصمتٍ غامض.
تفحّص العقيد الوجوه بعينيه. ثم أشار إلى الملازم إشارةً قصيرة.
صرخ الملازم:
/ انتباه! بأمر من سيادة العميد. يخرج كل من : السجين محمود حسين . السجين محمد حسين. /
تجمّد الهواء.
وقف الأخوان بثبات. بلا ارتباك. بلا خوف.
كانا يعرفان أن الموعد قد حان.
تبادلا نظرةً خاطفةً كأنها وداعُ حياةٍ كاملة. ثم مشيا بخطى ثابتةٍ بين جنديين. وأيديهما مقيدة إلى الخلف.
وقبل أن يعبران الباب. التفت محمود نحو رفاقه وصاح بأعلى صوته:
/ نموت فقط لأننا كرد!
نموت ألف مرة. و لتحيا كردستان! /
انغلق الباب.
عاد الصمت يهبط كجدارٍ من رماد.
لم يتحرك أحد.
كل شيءٍ كان يختنق.
وفي العاشرة صباحًا. وصل الخبر المؤكد: تم إعدام الأخوين محمود ومحمد حسين.
مرت أسابيع. أو ربما دهور. حتى جاء يوم الزيارة.
في ذلك الصباح. دخل رجلٌ عجوز يتكئ على عصا خشبية تتبعه امرأة عجوز تمشي ببطء. تتلمّس الجدران بعينيها كأنها تبحث عن ظلّيْن ضاعا منذ زمن.
اقتربا من المهجع. والناس تفسح لهما الطريق بصمتٍ موجع.
سأل الرجل بصوتٍ مرتجف:
/ يا جماعة الخير هل رأى أحدكم أولادي محمود ومحمد حسين؟/
لم يردّ أحد.
كان فاضل يعضّ على شفتيه كي لا ينطق.
عاد الرجل يسأل مرةً ثانية بصوتٍ يخنقه البكاء:
أين ولداي؟ هل هما بخير؟
فجأة انشقّ الصمت عن صوتٍ من عمق الصفوف يقول:
/ يا عم .. لقد أُعدما. رحمهم الله./
صرخت الأم و ولولت و رفعت يديها إلى السماء:
يا الله .. يا الله
وسقطت قبل أن تكمل الدعاء.
أمسك الرجل بعصاه المرتعشة. يحاول أن يسندها. فسقطت من يده و الدمع يغسل وجهه.
ثم صرخ بكل ما تبقّى في صدره من رمق:
/ محمود! محمد! فِدَا كُردستان! نموت و لتبقَ كُردستان! /
انهار إلى جوارها. كمن يسقط من جبلٍ داخليٍّ لا قاع له.
تبعثرت الهمهمات. و تراجع الحراس للحظةٍ في وجومٍ غامض. بينما ظلّ الصدى يتردّد في المهجع:
/ نموت .. و لتبقَ كُردستان./
يقول فاضل في نهاية شهادته:
لم أعد أستطيع الكلام بعدها. بقيتُ أنظر إلى المكان الذي خرجا منه. كأنهما سيعودان في أي لحظة. ما زلت أسمع صوتهما حتى اليوم. وهما يرددان:
نموت لتبقى كردستان.