دراسة نقديّة لقراءة دريدا لبنجامين في «أبراج بابل»

صبحي دقوري

 

مقدمة

تمثّل قراءة جاك دريدا لمقال والتر بنجامين «مهمّة المترجم» إحدى أكثر اللحظات ثراءً في الفكر المعاصر حول الترجمة، لأنّها تجمع بين اثنين من أهمّ فلاسفة القرن العشرين

— بنجامين: صاحب الرؤية «اللاهوتيّة – الجماليّة» للترجمة؛

— دريدا: صاحب التفكيك والاختلاف واللامتناهي لغويًا.

قراءة دريدا ليست شرحًا لبنجامين، بل حوارًا فلسفيًا معه، حوارًا تُخضع فيه اللغة لأعمق مستويات التفكيك.

هذه الدراسة تحاول نقد تلك القراءة، بوضعها في سياقها الفلسفي، ثم تحليل نقاط التلاقي والافتراق، والكشف عن حدودها ومكامن قوتها.

أولًا: الخلفيات الميتافيزيقية المختلفتان

  1. بنجامين: لاهوت اللغة و«اللغة الخالصة».

النص الذي يقرأه دريدا، «مهمّة المترجم»، مبني على فرضية لاهوتيّة هي:

  • وجود لغة أصلية سابقة على اللغات
  • شيء يشبه «الكلمة الإلهية»
  • ترجمة تنزع نحو «اللغة الخالصة» التي تسبق المعنى وتتجاوز الكلمات.

بحسب بنجامين، الترجمة ليست عملية تواصل، بل *عمل روحياً»، يكشف «القرابة الخفيّة» بين اللغات.

هذه الرؤية تتأسس على ميتافيزيقا واضحة، حتى لو حاول بنجامين أن يخفّف حدّتها.

  1. دريدا: التفكيك والاختلاف، لا أصل ولا لغة خالصة

دريدا يبدأ من موقف آخر تمامًا:

  • لا وجود للغة أصلية.
  • ولا وجود لمعنى ثابت خلف اللغات.
  • ولا وجود لمرجع يتجاوز اللغات.

بل يرى أن الترجمة تكشف الفجوات والاختلافات التي تجعل اللغة دائمًا منفتحة، غير مكتملة، بلا أساس ثابت.

من هنا، فإنّ قراءة دريدا لبنجامين تبدأ من سوء اتفاق منهجي:

قراءة لاهوتية تُقرأ بعيون لا تستطيع قبول أيّ لاهوت.

ولهذا تصبح قراءته قراءة «تفكيكية» لا «تفسيرية».

ثانيًا: كيف يستثمر دريدا بنجامين لمصلحته؟

دريدا لا يقرأ بنجامين لتتبّع فكرته،

بل ليجد فيه ما يؤيّد فكرته هو:

استحالة الأصل واستحالة الترجمة وضرورتها.

ولذلك يفكّك ثلاثة عناصر مركزية

  1. «البقاء – Survive»

بنجامين يرى أن النصّ «يبقى» عبر الترجمة.

دريدا يحرّف المعنى:

  • عند بنجامين: البقاء هو «تحقّق النصّ» في لغة أخرى.
  • عند دريدا: البقاء يعني نقصًا بنيويًا في الأصل.

الأصل لا يكتمل إلا بالترجمة، والاكتمال مستحيل.

 

إذن، دريدا يستخدم بنجامين لإثبات أن:

الأصل لا وجود له إلا بما يفقده.

  1. «القرابة بين اللغات»

بنجامين يقصد «قرابة ميتافيزيقية».

دريدا يحولها إلى:

مسافة، اختلاف، فجوة، أثر.

القرابة عند دريدا ليست وحدة، بل تشظّيًا.

  1. «الاسم العلم»

بنجامين لا يناقش الاسم العلم بهذا العمق.دريدا يجعل منه قلب الموضوع:

  • الاسم العلم غير قابل للترجمة
  • لكنه يجب أن يُترجم
  • إذن: نحن في قلب المفارقة.

هذا تحويل للمقال البنجاميني إلى «مسرح دريداوي».

ثالثًا: نقاط القوة في قراءة دريدا

  1. كشف ما هو مكتوم في نصّ بنجامين

دريدا يضيء مناطق ليست واضحة في نصّ بنجامين:

  • التمزّق بين الأصل والنسخة
  • العلاقة المتوتّرة بين الاسم والمعنى
  • العلاقة بين الترجمة والعطاء والواجب والدين

هذه قراءة خلافة تكشف عن جوانب فلسفية عميقة.

  1. جعل الترجمة مركزية في النظرية اللغوية

دريدا ينجح في جعل الترجمة ليست «فرعًا» من فروع اللغة، بل شرطًا بنيويًا للغة نفسها.

هذا إنجاز فكري كبير، لا يمكن التقليل منه.

  1. إعادة قراءة بابل كإنجاز لغوي

في الأسطورة التقليدية: بابل عقوبة.

في قراءة دريدا: بابل شرط إمكان الترجمة،

بل هي الحدث الذي يجعل اللغة تاريخية، غير مكتملة، مفتوحة.

هذه جرأة فلسفية نادرة.

رابعًا: مواطن الإشكال في قراءة دريدا

  1. مصادرة النصّ البنجاميني

دريدا لا يفسّر بنجامين…بل يستعمله.يقتطع مواضع تخدم مشروعه التفكيكي،ويهمّش بقية النصّ:

— النزعة اللاهوتية

— فكرة اللغة الخالصة

— فكرة الوحي

— العلاقة بين النص الأصلي والترجمة كعلاقة روحية

دريدا يرفض الميتافيزيقا، لكنه يستخدم نصًا مبنيًا عليها.

بعض الباحثين يرى أنّ دريدا «يُسقط» على بنجامين

ما يودّ أن يجده،

لا ما قصده بنجامين.

  1. تجاهل البعد الديني في نصّ بنجامين

بنجامين قريب من مفاهيم:

  • الحلق
  • الوحي
  • الأصل الإلهي للغة

كل هذا «ينزعه» دريدا من النصّ

لأنه يُفسد مشروعه التفكيكي.

يحوّل «اللغة الخالصة» إلى «اختلاف بلا أصل»،

وهذا قراءة معاكسة للنيّة.

  1. تحويل الوجود اللغوي إلى عدم قابلية مطلقة

بنجامين يرى الترجمة استكمالًا،

لكن دريدا يحوّلها إلى استحالة.

وهذا يفرّغ نصاً بنجامين من بعده الإيجابي.

  1. قراءة بنيوية-تفكيكية لنصّ ما قبل حوض استحمامي

دريدا يقرأ بنجامين بأدوات من القرن العشرين المتأخّر:

— الاختلاف

— الأثر

— اللامركزية

— استحالة الحضور

— انفتاح المعنى

بينما نصّ بنجامين يصدر عن:

— الرومانسية الألمانية

— النزعة المسيحية – اليهودية

— الأنثروبولوجيا الرمزية

الفارق الزمني والمنهجي كبير… ودريد يتجاهله.

خامسًا: أين يلتقيان؟

رغم الاختلاف كله، هناك نقاط تلاقٍ جوهرية

  1. كلاهما يرفض «المعنى المستقر»

بنجامين: المعنى يحدث فقط في «اللغة الخالصة».

دريدا: المعنى لا يتحقّق أبدًا، بل ينزلق بلا نهاية.

  1. كلاهما يرى أنّ الترجمة ليست تقنية

بل حدثًا لغويًا كونيًا.

  1. كلاهما يربط الترجمة بالهوية

بنجامين: الترجمة تكشف القرابة بين اللغات.

دريدا: الترجمة تكشف الاختلاف بين الهويات.

خاتمة الدراسة

قراءة دريدا لبنجامين

هي من أجمل القراءات الفلسفية للنصّ البنجاميني،

لكنّها ليست شرحًا ولا تفسيرًا.

إنّها إعادة كتابة للنصّ الأصليّ

انطلاقًا من مشروع تفكيكي

يبحث في الاختلاف أكثر مما يبحث في الوحدة،

وفي الاستحالة أكثر مما يبحث في الوعد،

وفي الانشقاق أكثر مما يبحث في المصالحة.

 

هذه القراءة:

 

— سرية

— خلافة

— عميقة

— لكنها ليست أمينة في المعنى التفسيري

إنها قراءة تُنتج نصًّا جديدًا،

بحسب المنطق الدريداوي:

الترجمة ليست توضيحًا، بل خلقٌ ثانياً.

 

وهكذا،

كما قال دريدا في الخاتمة:

«الترجمة لا تعيد الأصل

 

 

باريس في 26 تشرين الثاني 2025

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

 

المشهد الأول: دهشة البداية

دخل عبد الله مبنى المطار كفراشة تائهة في كنيسة عظيمة، عيناه تلتهمان التفاصيل:

السقوف المرتفعة كجبال، الوجوه الشاحبة المتجهة إلى مصائر مجهولة، والضوء البارد الذي يغسل كل شيء ببرودته.

 

كان يحمل حقيبتين تكشفان تناقضات حياته:

الصغيرة: معلقة بكتفه كطائر حزين

الكبيرة: منفوخة كقلب محمل بالذكريات (ملابس مستعملة لكل فصول العمر)

 

المشهد الجديد: استراحة المعاناة

في صالة…

يسر موقع ولاتى مه أن يقدم إلى قرائه الأعزاء هذا العمل التوثيقي القيم بعنوان (رجال لم ينصفهم التاريخ)، الذي ساهم الكاتب : إسماعيل عمر لعلي (سمكو) وكتاب آخرين في تأليفه.
رفوف كتب
وسيقوم موقع ولاتى مه بالتنسيق مع الكاتب إسماعيل عمر لعلي (سمكو). بنشر الحلقات التي ساهم الكاتب (سمكو) بكتابتها من هذا العمل، تقديرا لجهوده في توثيق مسيرة مناضلين كورد أفذاذ لم ينالوا ما يستحقونه من إنصاف…

إعداد وسرد أدبي: خوشناف سليمان
(عن شهادة الراوي فاضل عباس في مقابلة سابقة )

في زنزانةٍ ضيقةٍ تتنفسُ الموت أكثر مما تتنفسُ الهواء. كانت الجدران تحفظ أنين المعتقلين كما تحفظ المقابر أسماء موتاها.
ليلٌ لا ينتهي. ورائحةُ الخوف تمتزجُ بالعَرق وبدمٍ ناشفٍ على أرضٍ لم تعرف سوى وقع السلاسل.
هناك. في ركنٍ من أركان سجنٍ عراقيٍّ من زمن صدام…

صدر مؤخرًا عن دار نشر شلير – Weşanên Şilêr في روجافاي كردستان، الترجمة الكردية لرواية الكاتبة بيان سلمان «تلك الغيمة الساكنة»، بعنوان «Ew Ewrê Rawestiyayî»، بترجمة كلٍّ من الشاعر محمود بادلي والآنسة بيريفان عيسى.

الرواية التي تستند إلى تجربة شخصية عميقة، توثّق واحدة من أكثر المآسي الإنسانية إيلامًا في تاريخ كردستان العراق، وهي الهجرة المليونية القسرية…